إرهابي..بإقراره وتوقيعه!

عمر قدور
الثلاثاء   2019/01/29
الضجة التي ثارت مؤخراً حول اتفاق أضنة، الموقّع بين سلطة الأسد والحكومة التركية، مناسَبة لتفحّص سلوك هذه السلطة التي تستأسد على السوريين وترضخ أمام الضغط الخارجي الجدي. موجز الاتفاق معروف منذ سريانه، إلا أن نشره مؤخراً، ضمن المناخ السوري الحالي، هو أول فرصة للاطلاع عليه من قبل شريحة واسعة من السوريين لم تكن من قبل على دراية به، أو لم تكن تملك الاهتمام بهذا النوع من القضايا.

في الاتفاق يقرّ الأسد الأب بدعمه منظمة إرهابية "حزب العمال الكردستاني"، ومن الدلالات العميقة أن الإقرار يأتي بأثر رجعي، فالاتفاق لا ينص مثلاً على أنه بدءاً من التوقيع سيعتبر حزب العمال تنظيماً إرهابياً. وكما نذكر بلغ الإذعان ذروته الإعلامية بطرد أوجلان من دمشق بعد سنوات من إنكار وجوده فيها، بينما بلغ الإذعان ذروة أعلى في نص الاتفاق بمنح أنقرة حرية التحرك حتى عمق خمسة كيلومترات عندما تفشل سلطة الأسد بتنفيذ التزاماتها. أما الإشارة غير المباشرة إلى الاعتراف بضمّ لواء اسكندرون فهي من النوافل، إذ يدرك السوريون أن عدم الاعتراف سابقاً بضمه إلى تركيا شأن محض إعلامي، وعلى درجة أدنى بكثير من المتاجرة بقضية الجولان.

اعتراف الأسد بدعمه منظمة إرهابية يستقيم تماماً مع نظرته إلى القضية الكردية في سوريا، فلو كان يتعامل مع أكراد سوريا على نحو أفضل من التعامل التركي لجاز وضع دعمه حزب العمال في خانة الدفاع عن قضايا الشعوب، ولو لم يكن هناك مثلاً أكثر من مئتي ألف كردي سوري مجردين من الجنسية وأبسط حقوق المواطنة، فضلاً عن الاعتقال المستمر للنشطاء الأكراد السلميين، لربما امتلك دعمه قليلاً من المشروعية الأخلاقية. على العكس من ذلك، كان الوضع الكردي في تلك المرحلة يتقدم في تركيا بدءاً من حكم تورغوت أوزال، إذ أُلغي الحظر عن اللغة الكردية، ونشطت حركة النشر بها وتم تأسيس المعهد الكردي في استنبول. وربما لم يكن من المصادفة، من أجل فرملة تلك الإجراءات، ازدياد هجمات الجيش التركي وعمليات حزب العمال الكردستاني.

من جهة حزب العمال، الذي لا بد أن يدرك قادته نفاق سلطة الأسد في عموم القضية الكردية، يمكن تلخيص الأمر بأن أدبيات الحزب اعتبرت منذ البداية قضية الأكراد المركزية هي في تركيا، وليست في أي مكان آخر، بل نصت الأدبيات منذ البدايات على التحالف مع نظام الملالي وحكم الأسد دعماً للمعركة المركزية. يُقدّر عدد الشابات والشباب من أكراد سوريا الذين تطوعوا للقتال ضمن صفوف الحزب في تركيا بالآلاف، ونسبة كبيرة منهم كانت من منطقة عفرين التي حقق فيها الحزب بدءاً من الثمانيات أعلى نجاح له في الأوساط الكردية السورية.

يمكن تفسير ذلك النجاح بوضع عفرين كمنطقة كردية معزولة تماماً عن باقي مناطق التواجد الكردي، وبعيدة تالياً عن الاتصال الجغرافي بإقليم كردستان العراق بخلاف اتصالها بالجنوب التركي. أيضاً يمكن فهم نسبة لا بأس منها من نجاحات الحزب في عموم المناطق الكردية بناء على عدم تبلور قضية كردية سورية خالصة، مع الافتقار إلى التواصل الجغرافي إلا بالتواصل من خلال المناطق التي يطالب بها الحزب في تركيا. ذلك كله يخدم الحزب الذي يرى معركته في تركيا، مثلما يخدم سلطة الأسد التي تفضّل بلا شك أن تتجه أنظار الأكراد السوريين إلى العدو التركي بدل التفحص في أحوالهم الخاصة، ولقد رأينا خلال عقود تجربة مماثلة من خلال الترويج الإعلامي لفلسطين كقضية مركزية لإلهاء السوريين وصرف أنظارهم عن أحوالهم الوطنية الخاصة. تفرَّع عن التقاء المصالح هذا محاولات الحزب الاستفراد بالساحة الكردية السورية، وهو التنظيم الوحيد الذي وُجهت له أصابع الاتهام الكردية في قضايا اغتيال أو محاولات اغتيال كوادر أحزاب أخرى في النصف الأول من التسعينات، ثم في النصف الأول من العقد الماضي بعد تغيير اسم الفرع السوري ليصبح "حزب الاتحاد الديموقراطي".

في واحد من جوانبه، يمكن اعتبار تغيير الاسم نوعاً من الالتفاف على اتفاق أضنة، فتحْت المسمى الجديد لم تحدث تغييرات تخص العلاقة بالحزب الأم. بقيت أفكار أوجلان هي المرجعية النظرية الأساسية، وبقيت جبال قنديل في إقليم كردستان العراق المدرسة التي تتدرب فيها كوادر الحزب، فضلاً عما يُنسب لقادة قنديل "وهم من أكراد تركيا حصراً" من سيطرة وتحكّم على السياسات والتوجهات العامة. بعبارة أخرى؛ مثلما لم تكن سلطة الأسد مستعدة للتفريط بورقة حزب العمال كذلك كان الحزب غير مستعد للتفريط بالخزان البشري لأكراد سوريا، فالتقت مصلحة الطرفين على المناورة لعدم تنفيذ اتفاق أضنة سوى في الحدود التي تضمن عدم استفزاز أنقرة على نحو مباشر.

وكما نعلم ليست هذه هي الحالة الوحيدة التي ناور فيها تنظيم الأسد للتملص من التزامات دولية، فعلى صعيد منفصل بقي لعقود يستثمر في اللعبة المزدوجة لرعاية التنظيمات الجهادية ومن ثم كبحها أو التعاون مع المخابرات الغربية لملاحقتها. نذكر على سبيل المثال التعاون الذي ثمّنته المخابرات الأمريكية إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لكن ذلك التعاون لم يمنع تشجيع التنظيمات الجهادية وتسهيل عبورها إلى العراق لقتال الجيش الأمريكي، إلى أن اضطر بشار إلى إيقاف لعبته تحت التهديد الأمريكي المباشر.

ذلك كله لا يمنح أحقية أخلاقية لحكومات تركية متعاقبة لم تتقدم على نحو كافٍ في الملف الكردي، بما فيها حكومات حزب العدالة التي تقدمت خطوات على وقع محاولة انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، ثم انكفأت على وقع إخفاقها الأوروبي، لتتراجع خطوات إضافية جراء تحالفها مع التيار القومي المتشدد وتتبنى سياسة هي الأكثر تشدداً. بالطبع الجدل الحالي حول اتفاق أضنة لا يُعنى أساساً بنوايا هجومية لطرف وغيرة على الأكراد أو "السيادة" من طرف آخر، إنه مجرد نزاع على استثمار الورقة الكردية كما كان هو الحال طوال عقود. الجديد في المساومات الجارية أن حكومة أردوغان تطمع في تحديث الاتفاق لزيادة عدد الكيلومترات التي تعتبرها حزاماً أمنياً، بينما يطرح بشار وحلفاؤه مقايضة الميليشيات الكردية بنظيرتها العربية التابعة لأنقرة. تفاهم من هذا القبيل لا يحتاج أن يكون سرياً اليوم، فموجبات الحياء التي رافقت الاتفاق الأول قبل عشرين عاماً غير موجودة الآن لدى أطرفه جميعاً.