ماس كهربائي غاشم

عمر قدور
الثلاثاء   2018/09/04

هذه المرة كانت رواية إعلام الأسد محط سخرية من بعض مواليه قبل معارضيه، ففي وقت قياسي أُعلن عن أن سبب انفجارات مطار المزة هو ماس كهربائي. هكذا قبل التحقق من الأمر الذي يُفترض أن يستغرق وقتاً من إطفاء الحرائق ومعاينة المكان، ومن دون تبرير لإطلاق مضادات الطيران والصواريخ، التي يُفترض منطقياً إطلاقها عندما تُنذر الرادارات بهجوم جوي أو صاروخي. أيضاً سيكتفي إعلام الأسد برواية الماس الكهربائي، من دون تقديم تفسير لمشاهد النيران شديدة الاشتعال في العديد من البقع المتباعدة، والتي نشرها العديد من الموالين والخصوم على صفحات التواصل الاجتماعي، إلا إذا كان يُفترض تصديق حدوث ماس كهربائي في جميع تلك المستودعات والمواقع بشكل متزامن!

مهما قلنا في الإعلام الركيك للمنظومة الأسدية فإنه، في روايته عن انفجارات مطار المزة، يبدو كأنه تفوق على نفسه لجهة الكذب المفضوح. فلا يحتاج فطنة خاصة، على سبيل المثال، إصدارُ بيان ينص على حدوث انفجارات لأسباب مجهولة سيُكشف عنها بعد التحقيق، وسيكون من السهل لاحقاً نسيان الموضوع برمته، لأن لا أحد سيطالب بنتيجته. نعلم أن بياناً كهذا بدوره لن يُصدّق حتى من قبل بعض الموالين، إلا أنه سيكون كذبة أقل ابتذالاً ولن يسفح ماء وجوههم على نحو قصة الماس الكهربائي.

ما افتقده الموالون، وافتقدناه معهم، ذلك الإنشاء المعهود في بيانات سابقة تشير إلى حدوث اعتداء إسرائيلي غاشم، من دون الإفصاح عن الخسائر التي ليست سراً عسكرياً مثل الخسائر البشرية، ثم تحتفظ بحق الرد في المكان والزمان المناسبين. لقد افتقدنا أيضاً روح الطرافة في بيانات السنوات الأخيرة، إذ كانت تشير إلى مأزق العدو الإسرائيلي إزاء هزيمة "عملائه" من فصائل المعارضة، وبحيث تظهر الغارات الجوية نوعاً من نوبة الغضب والانتقام العشوائيين جراء الخسارة المدوية.

لا يكفي لتبرير غياب الربط بين القصف الإسرائيلي وهزيمة "العملاء" تحديداً ما بات متداولاً على نطاق واسع من مباركة إسرائيلية لبقاء بشار، لأن هذا ليس بالجديد أولاً، وتالياً لأن المباركة الإسرائيلية لم تمنع من قبل الاستعراضات اللغوية للعداء المصطنع. إلا إذا كان المطلوب من تنظيم الأسد، وفق قواعد سلوك جديدة، الكفّ عن لعبة الممانعة الممجوجة، مع عدم استبعاد تبرعه بالكفّ عنها على هذا النحو المبتذل، كدلالة على تلبية التغير المطلوب منه، إنما من النافذة الإسرائيلية بما أنه غير قادر على التحكم بغريزته المتوحشة إزاء السوريين.

قد تكون هناك رسالة أخرى في تلفيق قصة الماس الكهربائي على عجل، مفادها النأي بالنفس المطلوب من بشار عن الصراع الإسرائيلي-الإيراني. وقد يصح واقعياً أن الجهة المتأذية من انفجارات مطار المزة هي طهران التي تتخذ منه مركزاً لعناصر من ميليشياتها ولعتادها، وعليه لا شأن للأسد بهجوم لا يستهدفه، حتى إذا كان الهجوم في موقع يخضع لسيطرته شكلياً. هذا النأي قد يكون مهماً إثباته، بخاصة بعد توقيع وزير الدفاع الإيراني اتفاقية للتعاون الدفاعي والعسكري مع نظيره الأسدي. بمعنى أن الأسد يعطي طهران ما تريد بيد، ويعطي إسرائيل ما تريد باليد الأخرى.

مع ذلك من المستبعد أن يكون تلفيق قصة الماس الكهربائي بعيداً عن الموافقة الإيرانية، فطهران تلعب اللعبة المزدوجة عبر تصعيد خطابها الإعلامي إزاء واشنطن وتل أبيب، وفي الوقت نفسه التغاضي عن الاعتداءات الإسرائيلية التي تطال منشآتها في سوريا. وهي تلعب اللعبة المزدوجة مع الحليف الروسي، إذ تنصاع لتفاهمات موسكو مع تل أبيب حول إبعاد الميليشيات الإيرانية عن الحدود الإسرائيلية، بينما لا تتوقف عن تهريب الأسلحة، أو تهريب عناصر من الميليشيات تحت تسمية مستشارين أو بزيّ قوات الأسد، ضمن العمق الذي يُفترض أنها أخلته. أي أن قصة الماس الكهربائي تخلي طهران من مسؤوليتها عن الرد، أو عدم الرد بخلاف خطابها الإعلامي الصاخب، وتعفيها من الاعتراف بوجود قواعد عسكرية في مواقع قريبة من إسرائيل.

عدم رغبة إيران في إغضاب إسرائيل الآن، ولو من قبيل الاشتباك اللفظي، إشارة أخرى تُرسل عبر تل أبيب إلى واشنطن. فاليوم بات السلوك إزاء إسرائيل اختباراً يتطلع الناجح فيه إلى علاقات أفضل مع واشنطن، أو إلى تبريد أجواء المواجهة معها. وإذا كانت موسكو تراهن على التنسيق مع إسرائيل، كمدخل للتنسيق مع واشنطن إقليمياً، فإن طهران بحاجة أكبر إلى المدخل ذاته، بينما تسعى إلى تفادي العقوبات الأمريكية المتصاعدة، وتحاول استثمار انتصارها السياسي لبنانياً. أما صمتها عن القصف الإسرائيلي فهو لا يكلفها شيء داخلياً، بما أن قواعدها العسكرية في سوريا غير معلنة، ويمكن دائماً الادعاء بأن جثث أفراد الحرس الثوري عائدة من معارك حماية المراقد الشيعية أو من المعركة ضد الإرهاب.

إن تلفيق قصة الماس الكهربائي، وهي ليست المرة الأولى، تعبير كاريكاتوري عن إفلاس خطاب الممانعة. فلأول مرة يصعب إخفاء أن بقاء بشار غير ممكن من دون رضا إسرائيل، وأن الصراع الإسرائيلي-الإيراني هو في جانب منه صراع على بشار الذي تريده تل أبيب تحت الوصاية الروسية التامة. ولأول مرة يجد محور الممانعة نفسه محشوراً في زاوية تحالفاته، فحليفه وسنده الرئيسي يقيم أوثق العلاقات مع العدو الإسرائيلي المزعوم، إلى درجة لم تتحرج فيها موسكو في سوابق عديدة عن التلميح إلى أن تنسيقها مع تل أبيب يتضمن حرية الطيران الحربي للأخيرة في الأجواء السورية، وفي أقصى الحالات اعترضت على توقيت القصف أو اعتبرته غير ملائم، بينما لم تعمد ولا في أية حالة منها إلى تشغيل راداراتها ولو على سبيل الاحتجاج الرمزي.

إفلاس خطاب الممانعة لا يعيب سدنته، فالمجازر التي ارتكبوها في حق السوريين أثبتت أنهم في منأى عن مفاهيم مثل الأخلاق أو الإنسانية أو الضمير. وهذه المجازر أثبتت أيضاً أن العداء المبدئي الوحيد لديهم هو للشعوب، بينما باقي الخصومات قابلة للتبدل بحسب ما يقتضيه بقاؤهم في السلطة. المشكلة هي، ربما، في جمهور الممانعة الذي يتعين عليه قبول قصص مثل العدوان الغاشم للماس الكهربائي حتى وهو يسخر منها، أو تحكيم عقله والاختيار بين الموالاة والعقل. ذلك لا يبعث على التفاؤل بالضرورة، فقد سبق لهذا الجمهور أن كان أمام خيار الموالاة أو الأخلاق والضمير، فضحى بالخيار الثاني بلا تردد.