العراق في عمق "الربيع العربي"

أحمد مغربي
الإثنين   2018/09/10
متظاهرون في البصرة يحتفلون بإحراق مقر حكومي احتجاجاً على تردي الخدمات العامة (غيتي)
ربما يبدو مستغرباً اعتبار المجريات السياسية الحالية في العراق، دليلاً على انعطافة حاسمة أحدثها "الربيع العربي"!

الأرجح أنه يوجد ألف سبب وأكثر لاستغراب الربط بين المشهد السياسي الفوّار في العراق حاضراً من جهة، وبين الحراك السياسي الذي تدفقت حوادثه المتناقضة والمتشابكة منذ "ثورة الياسمين" في تونس أواخر 2010، من جهة ثانية. وفي المقابل، يحمل ذلك الربط تحديّين واضحين. يتمثّل الأول في كون مصطلح "الربيع العربي" بات شبه مهجور، إضافة لكونه موضع نقد سلبي يكاد يلامس الشيطنة. ومع مآسٍ متوالية لم تكف عن التهاطل منذ "ثورة الياسمين"، صار حتى الأشد تعاطفاً مع تلك التسمية يبتعد عنها. من قال أن التحوّلات الكبرى في المجتمعات والدول تسير في خط متصاعد لا رجعة عنه؟ أين هو الدليل على عدم التخبط في مسار التغيير [بل والفشل أيضاً] عندما يكون جذرياً، مع التحفظ بشأن عدم الانزلاق إلى مقارنات شكلية في ذلك الأمر، على غرار الاستعادة البائسة فكرياً لمسار الثورة الفرنسية، أو الإصلاح الديني في أوروبا، أو حتى ثورة كرومويل في بريطانيا. ليست الأمور ببساطة أن نأتي بمثل من هنا وآخر من هناك، ربما لأنه لا شيء أصعب من إجراء مقارنات بين مسارات شعوب ومجتمعات وثقافات مختلفة ومتباينة، فكيف إذا أضيفت إليها الفوارق في المسارات التاريخية أيضاً؟

بعد ذلك التحفّظ كله، نسير ببطء للقول بالتروي قبل إصدار حكم الموت أو الإعدام، على الحراك السياسي الذي شهدته الدول العربية، فحرّك أعماقاً كانت "غافية" في مياهها الراكدة. يشمل ذلك، الهويّة والدين والثقافة والكيانات والمكوّنات وكيفية تفسير التاريخ والصراعات فيه، ومعنى الإصلاح الديني، والعلاقة مع الغرب [بما في ذلك تعريفه] وتواريخه الصعبة، وطُرُق النظر إلى الجغرافية السياسية وغيرها.

سؤال عن الشعوب "بذاتها"
في المقابل، ماذا لو جرى التفكير بأن أهم وأعمق ما ظهر مع "الربيع العربي" هو تحوّل الشعوب بذاتها إلى عنصر أساس متفاعل مع السياسة في مجتمعاتها؟ هناك قراءات لا حصر لها [وجزء منها متضارب تماماً] عن علاقة نخب سياسية، خصوصاً الحركات الإسلامية، مع "الربيع العربي". ماذا لو تُرِكَ ذلك الأمر، على أهميته، وانتقل الاهتمام إلى ما حدث مع العلاقة بين الشعوب ودولها، خصوصاً النظام السياسي فيها؟

بداية، يدور النقاش عن صعود دور الشعوب العربيّة بذاتها في صنع السياسة، بدرجة أو بأخرى في بلادها، وبمعنى أن علاقتها مع مسار السياسة تحرّر من حصريّة تمركزه في أيدي نُخَب سياسيّة أو عسكريّة. من دون مجازفة كبيرة، يبدو الأمر واضحاً في بلدان مثل تونس [مازالت المثل المتألق للربيع العربي]، وإلى حدّ كبير في المغرب. إذا نظرنا إلى "حراك الريف" الذي قاده الزفزافي، وهو مسجون حاضراً، ومدى إحراج أطراف السلطة بشأنه، وصولاً إلى "المخزن" [تعبير شائع مغربياً عن العرش]، يبدو واضحاً أن النظام السياسي في المغرب لم يعد يستطيع تجاوز الشارع بسهولة. بل إن القول بحصرية تمثيله في السلطة، على نحو ما جرت عليه الأمور منذ الاستقلال، أصبح بعيداً تماماً. حتى في مصر التي تتشابك فيها صورة "الربيع" مع مجريات لا حصر لها، ما زال ضغط الشارع عنصراً أساسياً في المشهد السياسي، وهو ما "تخاطبه" السلطة دوماً، بطرق مختلفة تتضمن القمع بالطبع. والأرجح أنّه لا مجازفة في القول بأن الشارع المصري يبدو فاعلاً بذاته في آليات السياسة، بل بصورة يوميّة. واستطراداً، يصعب التغاضي عن مدى ابتعاد ذلك الأمر عما كانته أحوال مصر منذ النظام الجمهوري، بل حتى في العهد الملكي حين كانت الأحزاب تفترض أنها تمثّل الشعب في آليات السياسة، وبغض النظر عن مدى صحة ذلك التمثيل وتبدّلاته أيضاً.

البصرة.. وهيغل
في المشهد المأساوي لسوريا [وتشبهها ليبيا]، ربما يصعب تلمس اتجاه الانعطافة التي أحدثها "الربيع العربي". في المقابل، هل مجازفة كبرى القول بأن سوريا ما بعد حربها يصعب أن تكون سوريا ما قبلها؟ هناك أصوات من أطراف متضاربة في سوريا [وليبيا]، تردد تلك العبارة، رغم أنها تقصد بها أشياء متباينة، بل متناقضة، لكنها تتقاطع حول قصد القول بحدوث تغيير حاسم في علاقة الشعب مع الدولة. ويتفق على ذلك من يرى في انتصار الأسد صورة معاصرة لانتصار الجنرال فرانكو بعد الحرب الأهلية الإسبانية، وكذلك من يقول بأن الحرب وضعت نهاية لـ"الحل الإسلامي" في سوريا أيضاً.

من المستطاع تلمّس شيء مشابه، بصورة أو بأخرى، حتى في بلدان لم يكن "ربيعها" صريحاً كالسودان والجزائر، والأخيرة تعاني أزمة معلنة إلى حدّ استعصاء تجديد انتقال السلطة على يد السلطة نفسها، وذلك من معاني تشبثها بحضور الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رغم "شبحيّة" ذلك الحضور.

من المنظار هذا، يغدو مستطاعاً النظر إلى متغيّرات السياسة راهناً في العراق الذي لم يلامسه "الربيع العربي" إلا لمساً خفيفاً على السطح.

في العمق، هناك بلد تحرّر بطريقة أو بأخرى من آخر استعمار في الزمن المعاصر، بل أن ديكتاتورية صدام حسين جرّته جرّاً إلى ذلك الاستعمار. وسرعان ما دخل في دوامة حروب معقدها العلاقة بين مكوّناته المختلفة [شيعة، سنّة، عرب، أكراد، تركمان، مسيحيون، أيزيديون...]، ما يعني أنها تبدّل في عمق نسيجه كشعب أيضاً. هناك علاقة واضحة بين صعود "صدّام شيعي"، مثَّله رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وإئتلاف "دولة القانون" [من يَنسى شعار "أبد ما نطّيها"، أي لا نعطيها بالعامية العراقية، في إشارة الى السلطة؟]، وبين الحرب الطاحنة مع "داعش" فيها؟ وربما لم تكن مصادفة كل تلك التداخلات بين الحرب مع "داعش"، وما حدث مع مشروع إقامة دولة كردية مستقلة قاده الزعيم مسعود البارزاني، واندحر لأسباب يطول شرحها. في المقابل، هل يصعب القول بأن ذلك شكّل تغييراً في علاقة الكرد مع الدولة العراقية، بل هو إعادة تعريف للمكوّن الكردي في النسيج الوطني العراقي؟

وفي أوضاع فائقة التشابك، تتحدث أوساط "الحزب الشيوعي العراقي" عن كتلة شعبيّة مشتركة بين الشيوعيين وتحالف "سائرون" الذي يقوده السيد مقتدى الصدر، مع الإشارة إلى أن الشيوعيين يقصدون بها المعنى الاجتماعي لكلمة "كتلة"، وليس الطائفي أو المذهبي. وقبيل الانتخابات النيابيّة الأخيرة، لكن خصوصاً بعدها، بدا الصدر كأنه يعبّر عن تيار شعبي عراقي، بالمعنى الدولتيّ للكلمة، وبمعنى التشديد على الانتماء للهوية العراقيّة بمتبدلاتها الحاضرة. مثلاً، ينظر إلى الصدر بوصفه لساناً للمرجعية الشيعية العراقية التي يمثلها آية الله السيستاني، وهي تملك أفق التشديد على الخصوصيّة العراقيّة في العلاقة مع المرجعيات الإيرانية الدينية. ويصح القول أيضاً بأن الصدر صريح في عدائه لأميركا، ولو أن هناك من فاتته ملاحظة ذلك في فترة تحالفه الوثيق مع رئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادي. ويعبّر تحالف الصدر مع تحالف "الفتح" بقيادة هادي العامري، عن عدم تصادميته مع إيران التي يحرص على التمايز عن سياساتها أيضاً.

وكانت التحركات الشعبية في البصرة، كعاصمة للجنوب العراقي ذي الغلبة الشيعية مذهبيّاً، هي الأداة المفضلة لمقتدى الصدر. وساهم التحرك الشعبي في البصرة [وإلى حد ما في بغداد أيضاً] في تحويل الخلاف الشيعي- الشيعي إلى صراع سياسي، وهو تحوّل إيجابي يخرج السياسة من مسارات الطائفية والمذهبية، وينقلها إلى مجالها الفعلي وهو السياسة.

ربما بدت القراءة السابقة "منحازة" سلفاً إلى افتراضاتها، ويذكِّر ذلك بفيلسوف التاريخ الحديث، هيغل (1770- 1831)، إذ كرر دوماً "شكوى" صعوبة التعلّم من التاريخ! لكن، هل يصعب فعليّاً القول بأن "الربيع العربي" بقيت منه شعوب لا تريد أن تُحكَم بالطريقة التي حُكمَت فيها منذ ظهور الدول المعاصرة فيها؟