إدلب بين مقاول وبلطجي

عمر قدور
السبت   2018/09/01

لم يكن ينقص تهيئة الأجواء لمعركة إدلب سوى أن يعلن دي ميستورا الخميس الماضي استعداده العمل على ممر إنساني للمدنيين فيها، المبعوث الدولي كان قد أبدى استعداداً مماثلاً مع اجتياح الغوطة الشرقية، ولم تكن موسكو أو غيرها في وارد منحه الدور الذي يتوق إليه للتغطية على الوحشية التي يبدو أن أحداً سواه لا يكترث بالتغطية عليها. وكي لا ننتقص من السلة المتكاملة للرجل، ونقصرها على شبهة التطوع بمهمة إنسانية، فهو قد ساوى بين إمكانية استخدام الأسد أو النصرة السلاح الكيماوي، وأشار إلى عشرة آلاف "إرهابي" ينبغي القضاء عليهم. قد نشبّه عرض دي مستورا بعقلية المقاول الصغير، الذي يريد صنع إنجاز لشخصه وموقعه، لا من خلال العرض الأخير فحسب وإنما من خلال مجمل أدائه في منصبه الذي بقي مخلصاً لأقذر السياسات الدولية في سوريا، من دون أن تتخلله صحوة واحدة على غرار سابقيه كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي.

ليس من غاية هذا الاستهلال لوم موظف أممي صغير قياساً إلى اللعبة الدولية الأكبر، إلا أنه "وهو يحاول أن يجد لنفسه مكاناً" يستبطن ذلك المناخ المواتي للمعركة القادمة، والاتفاق الدولي حولها. فمصير إدلب اليوم يمكن اختصاره اليوم بأن واقع بين مقاول وبلطجي، فلا يحاول رئيس القوة الدولية الأعظم إخفاء إدارته الحكم بأسلوب المقاول، بل يروّج له بصفته الأسلوب الأكثر ربحية لبلاده، بينما يروّج نظيره الروسي لنهجه في البلطجة باعتباره الطريق الأنسب لاحتلال مكانة دولية، بالمعنى الحرفي لكلمة احتلال.

منذ أيام أوباما تعاملت الإدارة الأمريكية مع الملف السوري بأسلوب المقاولات، قايضت به طهران من أجل الاتفاق النووي، ثم قايضت به موسكو كترضية عن العقوبات المتخذة ضدها في الملف الأوكراني، وفيما بينهما منحت مساحات لخصوم الأسد الإقليميين للتدخل مع منع أن يكون تدخلهم حاسماً، وعندما احتاجت قوة على الأرض لمساندة قصفها داعش لم تتردد في عرض الأمر كمقاولة لاستجلاب مرتزقة لهدف محدد وحيد. إلا أنه مع مجيء إدارة ترامب اتضح كلياً أن بوتين قد نال المقاولة الأكبر من أجل تصفية كافة الفصائل المسلحة التي تقاتل الأسد، سواءً تلك المصنّفة إرهابية أو تلك التي نالت في ما مضى دعماً من واشنطن أو حلفائها. لقد مُنح بوتين الدور الذي يحبه ويتوق إليه، أي دور البلطجي الذي لا يتورع عن استعمال البطش والوحشية، ولا يتورع عن إظهار احتقاره القوانين الإنسانية الدولية، ولا يرى مبرراً لاستخدام السياسة مع الأضعف ما دام متاحاً إخضاعه.

إذا لم تكن أنقرة قد خُدعت بوعود روسية فهي على الأرجح قد ركبت موجة المقاولات، عندما كانت مساعدتها حاجةً روسية. في كل الأحوال ظهرت السياسة التركية، عبر مسار آستانة، كمقاول إقليمي عند البلطجي الأكبر. يندرج في هذا الإطار ما أعلنه مؤخراً مسؤول روسي عن أن بلاده على تواصل مع أنقرة لبحث مصيري إدلب وعفرين، فالمغزى هنا الابتزاز العلني من أجل مقايضة جديدة مفادها اجتياح إدلب مقابل عدم إزعاج الوجود التركي في عفرين. بل من المرجّح أن موسكو، وقد ضمنت موافقة دولية على استهداف إدلب، تلمّح إلى الهدف التالي وهو استرداد عفرين التي أخلتها قبيل الاجتياح التركي، تماماً كما فعلت أثناء استهداف جبهة حوران إذ أعلنت نيتها التوجه إلى إدلب لاحقاً.

كانت لافتةً في سياق التحضير لمعركة إدلب تصريحاتُ وزير خارجية السعودية في موسكو التي اقتصرت على المطالبة "بحل سياسي يحافظ على وحدة أراضي سوريا وأمنها واستقرارها"، فهذه الصيغة هي المستخدمة على نطاق واسع من أجل استبعاد كافة اللاعبين الإقليميين. ويبقى الغطاء الأهم هو اتصال معاون وزير الخارجية الروسي، عقب زيارة الجبير، برئيس الهيئة العليا للتفاوض التي تتخذ من الرياض مقراً لها، ليوحي الاتصال بوجود تفاهم بين موسكو والهيئة يشمل ضمناً موافقة الأخيرة على ما يُحضّر لإدلب. ورغم الخلاف المعروف بين الرياض وأنقرة يجوز القول بوجود تناغم في دوريهما في الملف السوري، وإذا أنجزت الثانية دورها في ضبط فصائل المعارضة وأماكن سيطرتها، وفق خطة خفض التصعيد المزعومة، فإن الأولى أنجزت دورها أيضاً في تخفيض سقف المعارضة السياسية، عبر إنشاء الهيئة العليا للتفاوض ومن ثم توسيعها لتشمل شخصيات تؤيد علناً بقاء بشار.

من المفترض أن يوحي التقاسم الوظيفي، دولياً وإقليمياً، بوجود استراتيجية عامة تجمع أطرافه. وكان هذا ليصحّ لو كان هناك تصور متكامل لمعركة إدلب، بما فيه الشق الإنساني المتعلق بالمدنيين، والسياسي والعسكري المتعلقان بالفصائل المدعومة تركياً. لكن، كما علمتنا تجارب اجتياح مناطق خفض التصعيد الأخرى، يُستبعد أن تتوفر أدنى حساسية في ما يخص حماية المدنيين أثناء القصف الوحشي والعشوائي، ويُستبعد توفر ضمانات حقيقية للمقاتلين غير المصنّفين كإرهابيين ضمن جبهة النصرة، أو ضمانات للمدنيين المتبقّين بعد الاجتياح من عمليات الانتقام والتنكيل والسطو الأسدية.

غياب الحد الأدنى من الضمانات لا يعكس فقط استهتاراً بأرواح السوريين، أو استهتاراً بحقوقهم حين يُلقى بهم ثانية في حظيرة الأسد. إنه يعكس أيضاً الحد المتردي من السياسات التي تتراوح بين المقاولة والبلطجة، إذ ضمن هذين الحدين لا استراتيجيات ذات وزن وأفق واضح، ولا اعتبار لأية أعراف سياسية، وما كان ممكناً في الأصل بقاء تنظيم الأسد لو لم تكن السياسات الدولية والإقليمية ضمنهما.

لقد كان للسياسات المذكورة فضل في شيوع المقاولة والبلطجة داخلياً أيضاً، فالمثال المتوحش الذي قدّمه الأسد كان مستحيلاً لولا الدعم المباشر من حلفائه، والدعم غير المباشر ممن لا يزعجهم سوى استخدام الكيماوي. تعرف موسكو وطهران وحشية الأسد، بل تعرفان فساده الذي لم يوفّر المساعدات الاقتصادية التي قدّمتاها له منذ الثورة، لكنهما شجعتاه على اقتراف المزيد. وتعرف واشنطن والعواصم الغربية والأمم المتحدة أن الأسد، فوق عدم التزامه بالقرارات الدولية، سطا على المساعدات الأممية ووزعها على شبيحته ومواليه، ومع ذلك صمت الجميع بذريعة عدم وجود خيار آخر لإيصالها.

أما مخابرات الدول التي دعمت بعض فصائل المعارضة فقد رعت تحول البعض منها إلى مرتزقة، وإلى إمارات حرب يختلط فيها الارتزاق بالبلطجة، ولم تربط تمويلها آنذاك بمعايير الحد الأدنى من احترام السوريين وأهداف الثورة، بل لم تربطه بالحد المنطقي من المردود العسكري والميداني. وكي لا نقتصر باللوم على الخارج ينبغي الاعتراف بأن الأرض السورية كان فيها ما فيها من الخصوبة لإنتاج مختلف أنواع شطّار المقاولات والبلطجة بحيث تلاقي فساد الخارج وإفساده، وبحيث يصعب الجزم بأرجحية الخارج على الداخل أو العكس. لكن ما لا يصعب الجزم به، مع التحضير للهجوم على إدلب وإنهاء مرحلة الصراع المسلح، أن زمن الشطّار الصغار قد ولى سورياً وإقليمياً، في انتظار ما يتفق عليه المقاول والبلطجي الدوليين.