سمير أمين: مركز وأطراف وسقوط في الهامش

أديب نعمة
الثلاثاء   2018/08/14
مع غياب سمير أمين، فقد التيار الماركسي العالمثالثي والعربي، أبرز مفكريه، بغض النظر عن مدى الاتفاق او الاختلاف مع نظريته وأفكاره، النظرية البحت منها (مثل نظرية المركز والأطراف، والتبادل والنمو اللامتكافئ، وقانون القيمة العالمي...الخ)، أو تلك التي لها طابع سياسي او عملي (مثل فك الارتباط، والتحالف الوطني الشعبي...الخ). ولعل الاختلاف والتباين في الجوانب السياسية والعملية، ابرز من الجوانب النظرية، رغم عدم جواز الفصل بينهما. 

ربطتني بسمير أمين علاقة تعارف وعمل وصداقة منذ اواخر الثمانينات، وتأثرت به كشاب يحاول أن يكون ماركسياً في لحظة انحسار المنظومة السوفياتية، ويبحث عن أجوبة ومعرفة تحرره من الدوغمائية وتتحدى معارفه التقليدية. جذبتني بشكل خاص جدلية "المركز والأطراف" في مسار التطور التاريخي والثورات على نحو خاص.

الفكرة بسيطة وعميقة في آن، وثمة وشواهد كثيرة على صحتها (وكل حقيقة نسبية حتماً). يعتبر سمير أمين أن لكل نظام مركزاً وأطرافاً، وأن التغيير والجديد يتولد (من حيث المبدأ) في الأطراف لا في المركز. فالمركز يملك عادة من الديناميات الداخلية ما يمكّنه أن يكون أكثر قدرة على حل مشكلاته من داخل النظام، ولأنه يملك أيضاً القدرة على حل مشكلاته على حساب الآخرين – أي الأطراف، من خلال السيطرة والاستتباع واستغلال أو نهب الموارد بشكل مباشر أو غير مباشر، بما يمكنه من ان يتوصل الى تسويات مع الطبقات الشعبية والفقيرة في بلد المركز تجعل منهم مستفيدين موضوعياً من النظام، وغير ذوي مصلحة قوية في تغييره طالما ما زالوا يشعرون بأنهم قادرون على الاستفادة من الفائض المحول من الأطراف والذي يوزع جزء منه عليهم بشكل منافع.

هذا الاستنتاج مبني على استقراء التاريخ، بحسب سمير امين، حيث أن الثورة البورجوازية والرأسمالية نشأت في اووربا، وهي كانت في القرون الوسطي قبل الثورة الصناعية في موقع طرفيٍّ، مقارنة بالامبراطوريات المتقدمة التي كانت تمثل المركز، سواء في الصين او الهند، أو الامبراطورية العربية – الإسلامية. فهذه الحضارات المزدهرة والمتقدمة مقارنة بأوروبا القروسطية، لم تنتج الثورة الصناعية والرأسمالية، حيث أنها كنت أقل حاجة إليها بحكم الوفرة والسطوة التي كانت لها، وقدرتها على استخلاص الفائض من الأراضي والشعوب الخاضعة لها.

الأمر نفسه تكرر مع الثورة الاشتراكية (بغض النظر عن تحفظات سمير أمين على وصف المنظومة السوفياتية، وحتى الصينية، بالاشتراكية). حيث أن الثورة لم تقع في مركز النظام الرأسمالي العالمي، كما توقع ماركس وإنجلز، بل وقعت في أطراف النظام، أي في روسيا القيصرية. والسبب في ذلك مشابه للمثل السابق، حيث أن النظام الرأسمالي في المركز (أوروبا الغربية)، كان يستفيد من فائض هائل من ثروات المستعمرات التي استخدمت في تطويع الصراع الطبقي في الداخل، والوصول الى تسويات وعقد صفقات، الأمر الذي أثر أيضاً في الحركات السياسية التغييرية نفسها، بما في ذلك الاشتراكية، حيث طغت الاتجاهات الاصلاحية داخلها (الأممية الثانية) على حساب التيارات الثورية (الأممية الثالثة) التي كانت تزدهر في روسيا ودول الأطراف، والتي هي أكثر ملاءمة لدول العالم الثالث أيضاً، حيث يتمزج الطبقي بالقومي والوطني، وحيث تحل فكرة الشعب والفئات الشعبية والفلاحين محل فكرة الطبقة العاملة والبروليتاريا بالمعنى الضيق.

هكذا قرأ سمير أمين جانباً رئيسياً من تاريخ القرن العشرين، بدءاً من الثورة البلشفية، وصولاً إلى الصين وحركات التحرر الوطني في دول العالم الثالث، حيث كان بينها هذا المشترك الذي يميز الأطراف في مواجهة مركز النظام.

(لاحقاً لفتت نظري خصوبة هذه الفكرة التي تمتد إلى عالم الطبيعة أيضاً. إن التدرج في عملية الارتقاء يضع المملكة النباتية في مرتبة أدنى مقارنة بالمملكة الحيوانية والإنسان. إلا أن النباتات في بداية نشوء الحياة على الأرض، كانت تملك ميزة، مقارنة بأشكال الحياة الأخرى هي خاصية التمثل الضوئي – أي قدرتها على تحويل أشعة الشمس إلى طاقة – لذلك لم تكن بحاجة الى الحركة والانتقال من مكانها لتوفير مقومات الحياة، في حين أن أشكال الحياة الأخرى التي لم تكن تتمتع بهذه الميزة المتقدمة للنباتات، كانت مضطرة لأن تتحرك وتنتقل من مكان إلى آخر في سعيها إلى الطاقة والغذاء، فطورت قدراتها الحركية التي جعلت منها متفوقة في مرحلة لاحقة).

ستواجه هذه النظريات تحديات، كما كل نظرية. على سبيل المثال: إذا كان في الإمكان تحديد المراكز بسهولة نسبية، وهي الدول التي تملك سلطة اقتصادية وسياسية غالباً ما تكون واضحة ومنظمة (مثلاً دول مجلس التعاون الاقتصادي والتنمية، ومجموعة السبعة)، فإن تحديد الأطراف يصبح أكثر صعوبة. ولا يقصد سمير أمين بالأطراف التي تحمل إمكانية التغيير، تلك البلدان التي تقع في "أدنى" مراتب التنمية والتأثير في النظام العالمي. فهذه الأخيرة ربما باتت على هامش النظام أو خارجه، لذلك ميز في مفرداته بين ما يسميه العالم الثالث (مثل دول أميركا اللاتنية أو الهند)، وبين ما سمّاه العالم الرابع (ومنه البلدان العربية وبلدان افريقية). العالم الثالث هو الطرف الذي يمكن أن يحمل احتمالات التغيير، أما العالم الرابع فهو في وضع مأساوي لا يسمح له بذلك. ولعل مثل هذا التمييز هو مرآة للفكرة الماركسية التي تميز بين الطبقة العاملة الحاملة للتغيير الثوري، وبين البروليتاريا الرثة والمهمشين حيث تموت الافكار الثورية لصالح الجريمة والعنف.

مثل هذا التمييز بين عالم ثالث ورابع، وبين أطراف وهوامش، يبقى غير مقنع تماماً، رغم وجاهة الفكرة، إلا أن سندها النظري يضعف فكرة ثنائية المركز والأطراف، ويفقدها طابعها البسيط والحاسم. والتحدي نفسه يواجه المفاهيم الأخرى، بما في ذلك مفهوم "فك الارتباط" الذي يبدو صعب التحقق بدوره. فما هو مصير بلداننا ومجتمعاتنا، بين لحاق مستحيل بنموذج المركز، وفك ارتباط لا يبدو قابلاً للتحقق بدوره في ظل العولمة الراهنة والمشكلات الداخلية الهائلة في مجتمعاتنا الغارقة في الاستبداد.
سمير أمين، تحية لك... فتحتَ عقولنا على أسئلة صعبة، ورَحلتَ.