صندوق الرحابنة الأسود

عمر قدور
الثلاثاء   2018/07/03

ليست مفاجأة أن يصف زياد الرحباني حسن نصرالله بالصامد الأكبر بعد بشار الأسد، ولا أن يبدي إعجابه بإدارة الأخير "الأزمة" بالتعاون مع بوتين، كما ورد في لقائه الأخير على قناة المنار في التاسع والعشرين من الشهر الحالي. مواقف الرحباني معروفة، واستضافته على قناة حزب الله تأتي ضمن هذا الإطار، وهو يقدّم للقناة ولمن يقف وراءها خدمة معروفة كنموذج يبدو للوهلة الأولى خارجاً عن مألوف الخط المتزمت، وقبل ذلك يقدّم الخدمة بوصفه حاملاً الإرث الرحباني وصاحب الوكالة الحصرية له.

قد لا نأتي بجديد أيضاً إذا قلنا أن زياد الرحباني ليس شخصية سياسية، ولا صاحب رأي سياسي يُعتدّ به خارج موقع شهرته الفني، فالرجل اعتاد إطلاق الأحكام وكأنها خلاصة خبرة فكرية وسياسية، بينما يُفترض بالآخرين "المعجبين به" أخذها على محمل العبقرية مهما بلغت من الابتذال. وهو في اللقاء نفسه لم يتنصل من وصف "العبقري" الذي نقله المذيع عن أحد المعجبين في وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يتوقف عندما وصفه المذيع في مستهل اللقاء بصاحب "الخلطة السحرية"، ومن المحتمل جداً أنه معتاد على ألقاب مشابهة تذكّرنا بلقب "الصوت الملائكي" الذي نالته الوالدة فيروز من قبل.

رغم ذلك لزياد ميزة أن يكون الصندوق الأسود للرحابنة، فلشدة إعجابه بصورة الابن العاق يبقى مصراً على فضح ما تحرص العائلة على إخفائه داخل أسوارها. هكذا كان الأمر مثلاً في الخلاف الذي حدث بينه وبين أمه، عندما فضح إعجابها بشخصية حسن نصرالله بينما كانت تفضّل إبقاءه طيّ الكتمان، لأن نموذج فيروز قائم أصلاً على تلك الهالة من الغموض، الهالة التي قد يكسرها تورط في موقف سياسي شديد الوضوح. اعتراض الأم على "وشاية" الابن لم يأتِ تكذيباً لما قاله، وإنما فقط بسبب الإشهار، وذلك العتب كان قوياً إلى درجة التسبب بقطيعة طويلة بينهما. لعل فيروز تفضّل لنفسها ذلك المجاز الذي ورد في قصيدة بيروت لمحمود درويش؛ "وصوت فيروز الموزع بالتساوي بين طائفتين يرشدنا إلى ما يجعل الأعداء عائلة"، حتى إذا لم يكن هواها السياسي الفعلي يتسق مع المجاز.

المجاز الدرويشي نفسه يبدو مُستلهَماً من مسرحيات لفيروز مكرّسة ليظهر فيها صوتها في منزلة جامعة ومؤثرة في كافة الشخصيات مهما بلغ جبروتها، وإن كان الأداء التمثيلي لصاحبة الصوت غائباً تماماً. ينبغي ألا ننسى أن ذلك الصوت كان يرسم الخاتمة السعيدة المتخيَّلة للصراعات، بحيث تظهر الصراعات نفسها مجرد سوء تفاهم، أو ربما مجرد انحراف شخصي سرعان ما يزول تحت تأثير شخصية مؤثرة تؤديها فيروز بصوتها، أو بالأحرى يؤديها صوتها فقط. ذلك التصوّر المبسط للصراع، فوق عدم واقعيته، كان يبسّط ويخفف أيضاً من الانحيازات المعلنة فيه، فالانحياز إلى المقموعين أو الفقراء لا يكلّف شيئاً ما دامت الخواتيم وردية والتصالح هو سيدها.

إن زمن الرحابنة، بمعنى الأفق الذي تدور فيه التجربة بمجملها، هو تحديداً زمن الكذبة الكبرى الجميلة المفارقة للواقع، ومن هذه الثغرة تحديداً سيتسلل الابن زياد ليقول أنه داخل الصراع، لا فوقه على نمط أمه وأبيه، ومن هذا التمرد نال زياد صيته في أوساط الشباب خاصة. لكن التمرد لا يسير إلى منتهاه، فبقدر ما يكشف "الابن العاق" عن الصندوق الأسود للعائلة بقدر ما يدافع عن إرثها أيضاً، بل بقدر ما يحتكره ويزعم حراسته في مواجهة رحابنة آخرين، سواء أكانوا من عمومته وأولادهم أو حتى أخته. هذا أيضاً حال شريحة واسعة من معجبيه، حيث يتوزع الإعجاب بين التمسك بجمال الكذبة والتمرد عليها، بين الإعجاب بفيروز الأب والإعجاب بما يُعتقد أنها فيروز الابن.

السقطات الإنسانية الخالية من اللياقة التي شابت مسيرة زياد كان من السهل لمعجبيه أن تُعزى إلى التمرد المزعوم، هكذا مثلاً نُظر إلى أغنيته المتهكمة "مربى الدلال"، وهكذا لم يتوقف أحد عند موضوع إنكاره أبوة عاصي ابن طليقته دلال إلا عندما أصبح لعاصي الصغير حضوره الفني المستقل وراح يتحدث إلى الإعلام عن نفسه بوصفه رحبانياً أيضاً. بالمثل كان لسقطات فكرية أن تمر، كأن يحافظ زياد على صورة المتمرد وفي الوقت نفسه يعلن إعجابه بستالين، أو يعلن إعجابه بالنظام المخابراتي الأسدي، أو أن ينضوي في دائرة المروّجين والمدافعين عن حزب ديني وطائفي بينما يصرّ على انتمائه الشيوعي.

لقد كان زياد كذبة أخرى مغايرة لكذبة أهله، وكان قدر هذه الكذبة الانكشاف على محك زمن الثورات، بخاصة الثورة السورية التي كانت كاشفاً حاداً لمدّعي اليسار العربي. موقف زياد المعجب بصمود بشار، والمعادي بالطبع لثورة السوريين، فيه أمانة لرياء اليسار الذي ينتمي إليه، وفوقه ذلك الثأر الشخصي من السوريين الذين أذنت ثورتهم بانتهاء زمنه. ما كان في وسع زياد أن ينتمي إلى الثورة مثلما تمنى شباب من الثورة السورية أحبوه بشدة، ولم يتوقعوا أن يقف نموذجهم المتمرد على الضد من تمردهم، وبالتأكيد لم يكن في وسع والدته فيروز الانتماء إلى مثل هؤلاء الشباب، وإن بقيت في إطار التكتم على هواها السياسي. يمكن القول بأن ما انفضح على الدرجة ذاتها أن تمرد زياد على أسرته لم يخرج أصلاً عن الصراع الذي نراه في المسرح الرحباني، أي ذلك الصراع الذي ينتهي عند صوت فيروز، ولا يُستبعد أن يشوبه ما هو شخصي جداً مثل محاولة قتل الأب عبر الاستئثار بذلك الصوت.

قد ينضم زياد في موقفه السياسي إلى بؤس فنانين وكتّاب آخرين اتخذوا موقفاً معادياً من حقوق الشعوب، إلا أنه كان بينهم صاحب امتياز الأقرب نظرياً إلى جيل الثورات، من دون أن يحظى بالمكانة الفكرية التي لبعضهم الآخر. وفي تأثير ليس جانبياً، إن لم يكن مديداً، فإن لحظة الحقيقة التي كشفت هذا النوع من الثقافة والفن"لا المثقفين والفنانين فحسب" لا تقل أهمية عن انكشاف الجوانب الأخرى لمجتمعاتنا، وإن كنا لا نحظى بعدُ بنقدٍ معمقٍ لمجمل الظواهر التي كانت من قبل تزعم اصطفافاً غير الذي ظهر بعد الثورة.

المسألة ليست أن تقوم الثورة بنوع من الجدانوفية، ولا في أن يُجرّد أحد من ممثلي من أحقية فنية أو أدبية، بل هي في مساءلة المكانة غير المستحقة التي نالوها نفاقاً وادعاءً وانتساباً لقيم لا يستحقونها. ذلك لا يخرج أيضاً عن المساءلة الفنية، بما أن العوامل العاطفية والانفعالية قد ساعدت في تعويم أسماء وظواهر بأكثر مما تستحقه فنياً. غاية العملية النقدية لن تكون الثأر أو التشفي، بل تحقيق نوع من العدالة عبر قراءة أكثر تجرداً. وإلى أن يحين موعدنا مع عملية نقدية من هذا القبيل قد يسبقنا الواقع، وقد تأخذ العدالة مجراها أحياناً على المثال الذي ظهر فيه زياد الرحباني في قناة المنار مؤخراً، إذ تكفّل بنفسه وعبر اجترار نفسه بتحقيق شيء منها، وتكفّل اعتقاده بوجود مؤامرة أمريكية وسعودية تستهدف شخصه وفنه بأن يكون مديحه بشار الأسد مديح الند للند على أرضية المؤامرات التي يزعم كلاهما أنها تستهدفهما!