الخصم الأول للولايات المتحدة

شادي لويس
الثلاثاء   2018/07/17
انتقد ترامب، خطة ماي لخروج ناعم من الاتحاد الأوروبي، معتبراً أنها تهدد اتفاقاً للتجارة الحرة مع بلاده (غيتي)
"الاتحاد الأوروبي"، هكذا أجاب ترامب، في لقاء تلفزيوني، الأحد الماضي، على سؤال حول الخصم الأكبر لبلاده. وحاول مذيع قناة "سي بي أس" مراجعته، بالإشارة إلى خصوم آخرين ربما يجدر وضعهم أولاً على سلم العداء، مثل الصين أو روسيا. لكن ترامب لم يتزحزح عن تصريحه الصادم، "لدينا خصوم كثر.. لكن الاتحاد الأوروبي صعب جداً".

والحال أن الخصومة هذه، أبعد ما تكون عن واحدة من زلات لسان ترامب. فحرب تجارية كانت قد اندلعت بالفعل بين الاتحاد وبين الولايات المتحدة، خلال الأسابيع القليلة الماضية، بعد فرض الأخيرة رسوماً جمركية حمائية على مستوردات الصلب والألمنيوم الأوروبية. وبعد زيارة ترامب إلى المملكة المتحدة، أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية، في لقاء تلفزيوني، بأن ترامب كان قد نصحها بألا تتفاوض مع الاتحاد الأوروبي، بل أن تقاضيه. ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي أعرب فيها ترامب عن رأيه بخصوص مفاوضات "بريكزت"، وتمنيه قطع بريطانيا روابطها بالاتحاد بعد خروجها. فهو صرح بأنه يظن أن بوريس جونسون، وزير الخارجية البريطاني المستقيل، وأحد رموز المعسكر المنادي بخروج قاس من الاتحاد الأوروبي، يصلح رئيساً للوزراء. وفي لقاء مع جريدة "ذا صن" انتقد ترامب، خطة ماي للخروج الناعم من الاتحاد الأوروبي، وهدد بأن اتفاقاً للتجارة الحرة مع بلاده لن يكون ممكناً، إن تم تطبيق تلك الخطة.

وكان ترامب قد أثار فرقعات إعلامية مماثلة، في قمة مجموعة السبع، وبعدها قمة حلف الأطلسي، حيث هاجم حلفاء الولايات المتحدة التاريخيين في أوروبا، متهماً إياهم باستغلال الولايات المتحدة، وتقصيرهم في المشاركة بحصص عادلة في الإنفاق العسكري. ويبدو أن المؤسسات الأوروبية تأخذ تعليقات ترامب على محمل الجد. فأمس الاثنين، وفي افتتاح القمة الأوروبية الصينية المشتركة في بكين، قام دونالد تاسك، رئيس المجلس الأوروبي، في سياق حديثه عن الحرب الاقتصادية التي أعلنتها الولايات المتحدة على أكثر من جبهة، بدعوة جميع الأطراف إلى وقف "الفوضى والصراع". فبحسبه، يمكن لتلك الحروب الاقتصادية أن تتحول إلى "صراعات ساخنة"، مضيفاً أن "هندسة العالم تتغير أمام عيوننا الآن".

ولا يبدو أن تاسك يبالغ حين يشير إلى تحول في بنية النظام العالمي بالفعل. ففي افتتاح القمة التي أدلي خلالها بتلك التصريحات، وقف الصينيون والأوروبيون في جانب واحد، داعين الولايات المتحدة إلى احترام حرية التجارة الدولية. ولا يقتصر الأمر على مجرد تبدل الأدوار التاريخية، بشكل عبثي إلى أقصى حد. فعداء ترامب للاتحاد الأوروبي، يبدو أبعد من مجرد مناكفات اقتصادية مع ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، بعد الصين، والأولى بالأخذ في الاعتبار عدد السكان. فالاتحاد، أو على الأقل مبادئه التأسيسية، تتعارض ما يمثله ترامب.

فأوروبا الموحدة، بوصفها وحدة سياسية واقتصادية عابرة للقوميات والدولة الوطنية، تقف على النقيض مع نزعات القومية الصاعدة، وشعارات "أميركا أولاً"، وما يماثلها على الضفة الأخرى من الأطلسي. وفيما تأسس الاتحاد الأوروبي، على منح الدول الأعضاء ومواطنيها، بغض النظر عن أوزانها الجيوسياسية، وضعاً متساوياً في المؤسسات الأوروبية وأمام قوانينها، على الأقل نظرياً، فأن إيديولوجيا أقصى اليمين تكن احتقاراً معلناً للعلاقات بين الأفراد والدول، التي لا تعتمد المنافسة أساساً لها. فالبقاء للأقوى، هو معيار الطبيعة والسوق، والصراع هو ضمانة سلامتها. لذا، لا يبدو موقف إدارة ترامب الليّن، من الاحتلال الروسي للأراضي الأوكرانية، مستغرَباً. فالأمن، بحسب سياسات الابتزاز الأميركية الحالية، ضمانته إما القوة العسكرية، أو الدفع. وبلا شك فإن تلك سياسة، والتغاضي عن التحرشات الروسية بجيرانها، أتت ثمارها بالفعل. فالحكومة البولندية، مثلاً، عرضت على الولايات المتحدة إقامة قاعدة عسكرية دائمة على أراضيها في مقابل مليارَي دولار أميركي، تحسباً للخطر الروسي.

هكذا، فإن تفتت الاتحاد الأوروبي أو إضعافه، قدر الإمكان، وتصاعد الخطر الروسي، يبدو وكأنه السيناريو الأفضل في مخيلة الإدارة الأميركية الحالية. فذلك سيمكّنها من فرض شروطها الاقتصادية والعسكرية على دول الاتحاد، الأصغر على الأقل، والاستفراد بحلفائها القدامى. وبعيداً من حسابات المصلحة والخسارة، يبدو أن اليمين العالمي، وترامب على قمته، يجد في سياسيات الاتحاد الأوروبي، الخاصة بالهجرة وحقوق الإنسان والبيئة ودولة الرفاه، نموذجاً ليناً، ومبالغاً في ليبراليته (بالمعني الأميركي)، ومن الواجب تحطيمه. وتتساوى في تلك الرغبة الحكومات اليمينية في دول الاتحاد نفسه، مع إدارة ترامب، إذ تفضل منافسين خشنين مثل بوتين، على شركاء يراهم يتميزون بالرخاوة مثل الاتحاد الأوروبي.

يراهن القادة الأوروبيون على أن ترامب وسياسات إدارته، مجرد انحراف عارض، سرعان ما سيتم تداركه بعد انتهاء ولايته. وبالتالي، يحاول الاتحاد الأوروبي تخفيف التوتر إلى حده الأدنى، وبقدر الإمكان حتى تمر الأعوام القليلة المقبلة. ولعل تلك استراتيجية حكيمة إلى حد كبير. لكن ما يمكن أن يثير القلق لدى حلفاء الولايات المتحدة، في المستقبل القريب، هو أن تكون تلك الصراعات عرضاً متأخراً لانهيار العالم ثنائي القطب، وتراجع الدفع الذاتي لدعاية الحرب على الإرهاب وصراع الحضارات، والتي من دونها لا تبقى محاور للصراع، سوى الحروب البينية بين الحلفاء القدامى، أعضاء المعسكر المنتصر.