الدستور وأبواب سوريا المفتوحة

إياد الجعفري
الأربعاء   2018/06/20

يستخدم جمهور العامة من السوريين، تعبير "الدستور"، استخداماً ذكياً. فعندما يريد المرء دخول منزل أو غرفة مفتوحة الأبواب، يقول "دستور" بصوت مرتفع، قبل الدخول، بحيث يصبح دخوله للمكان، "شرعياً"، وفق العُرف الاجتماعي.


وقد يكون هذا الاستخدام العاميّ لكلمة "دستور" هو التوصيف الفعلي، لهذه الوثيقة السياسية الحيوية، في عالمنا العربي. فهي عملية "شرعنة" للحكم القائم، بفعل الأمر الواقع، لا أكثر. وذلك خلافاً لما هو شائع في الغرب، حيث يكون الدستور انعكاساً للعقد الاجتماعي بين مواطني الدولة.


ففي عالمنا العربي، تفرض قوة ما، نفسها، كسلطة حاكمة، باستخدام أدوات القسر، ومن ثم، تُشرعن ذلك الحكم عبر وثيقة تُسمى "الدستور"، تُفصَّل وفق المعايير التي تناسب مصالح القوة الحاكمة.


ووفق هذه القراءة، يمكن أن نفهم لماذا تصرّ روسيا على وضع "دستور" للسوريين، بأسرع وقتٍ ممكن. ولماذا يستفز ذلك نظام الأسد. ولماذا يدخل الغرب على الخط ويسارع للمشاركة في هذه العملية.


لنبدأ بالروس. بالنسبة لهم، يشكل "الدستور" ترسيماً للأمر الواقع الذي فرضوه بالقوة العسكرية القاهرة في سوريا. وهذا الترسيم يتطلب "شرعنة" يأمل الروس أن تحظى بقبولٍ دولي. لذلك يسعون لتنفيذ هذه العملية، بالتفاهم مع الأمم المتحدة، وعبر منصة جنيف.


ويريد الروس تنفيذ ما سبق، بشراكة مع الغرب. فهم يعلمون أن سيطرتهم طويلة الأمد على سوريا، لا يمكن أن تستقر، دون إقرار غربي لهم بذلك. لذلك، وافق الروس على نقل ملف "الدستور" إلى جنيف، ليتم ترتيبه بالشراكة مع القوى الغربية الكبرى، وحلفائهم الإقليميين.


وهكذا، ستكون جنيف مقراً لمسار تفاوضي، طرفاه الرئيسيان، "ثلاثي الأستانة – روسيا وتركيا وإيران"، من جهة، والقوى الغربية الكبرى، "أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا"، بجانب الأردن والسعودية، من جهة ثانية. وسيكون "دستور" السوريين، موضوع ذلك المسار التفاوضي.


أما لماذا استُفز نظام الأسد؟.. فالجواب يكمن في أن المشروع الروسي المطروح للدستور السوري، يتناقض مع مصالحه، ويهدد جانباً من صلاحياته المطلقة في الحكم. لذلك، يصرّ نظام الأسد على مناقشة دستور العام 2012، الذي فصّله وأقرّه بنفسه. ويرفض من حيث المبدأ، طرح نص دستوري بديل، على خلاف رغبة الحليف الروسي.


بدورهم، يقدم الروس قراءة لمستقبل سوريا، تقترب في جوانب منها، من القراءة الغربية. فهم يريدون سوريا "اتحادية"، يكون للأكراد فيها حكم ذاتي. سوريا لا يكون للدين دور مباشر في الحكم، فيها. كما لا يكون للهوية العربية دور الصدارة في تعريفها. سوريا، تُعرّف وفق دستورها المقترح روسياً، بأنها مجتمع متعدد الأطياف العِرقية والطائفية. وهذه التعددية يلح عليها النص الروسي، ويعرج عليها في أكثر من بند. والأبرز في الطرح الروسي، هو تقليص جانب من صلاحيات الرئيس، وتحديد عدد ولاياته. وهما النقطتان اللتان أثارتا استفزاز نظام الأسد، إلى جانب التصور الاتحادي للدولة السورية، وفق الطرح الروسي.


وفيما يتقدم مسار جنيف التفاوضي، حول "دستور" السوريين، وسط غياب شبه كامل للسوريين أنفسهم، ترتفع أصوات نشطاء معارضين، تحذّر من خطورة هذا المنعطف، بوصفه الإسفين الأخير الذي يُدق في نعش الثورة السورية. ويطالب هذا الفريق من نشطاء المعارضة بعدم تورط سياسيي المعارضة، على الأقل، في إقرار هذا المسار التفاوضي، عبر المشاركة فيه.


لا شك إن هذا التوصيف دقيق. فالقفز على مسألة تأسيس هيئة حكم انتقالي، التي أقرها القرار الدولي، 2254، واختصار كامل الأزمة السورية بمسألة الدستور، هي خطوة تستهدف إعادة تأهيل النظام، وترسيم خاتمة الصراع ضده، عبر عملية سياسية مُعلّبة، ومبتورة، تبرر إعادة قبول النظام كشريك في المجتمع الدولي، وعودة التواصل الرسمي معه من جانب مختلف الدول الإقليمية والغربية، التي ناصبته العداء العلني، على الأقل، بسبب جرائمه بحق السوريين.


لكن، يبقى السؤال، هل رفضُ هذا المسار هو الخيار الأفضل للمعارضة السورية؟، بل قد يكون السؤال، هل رفض هذا المسار متاح للمعارضة السورية، أصلاً؟، وهل من خيارات أخرى؟


يجيب البعض، بأنه لم يبق معارضة سورية، بالفعل. فما بقي الآن من حراك سياسي، هو عبارة عن منصات "معارضة"، كل منها يمثل مصلحة جهة خارجية ما. هذا الجواب بحد ذاته، يحسم الإجابات على الأسئلة السابقة. فإن لم يتبقَ معارضة تمثل الثورة السورية، كيف يمكن لنا أن نطالب المنصات التي تمثل جهات خارجية، بأفعال تنافي ما تمليه عليها تلك الجهات؟


المشهد ببساطة، أن أبواب سوريا مفتوحة، وأن الدستور هو الخطوة الأخيرة لترسيم دخول القوى الخارجية إليها، وشرعنة هذا الدخول. الأمر الذي يطرح تساؤلاً يخص مصير سلطة نظام الأسد، نفسها. ويحيل المشهد السوري إلى تاريخ سابق، يوم تم فرض الانتداب الفرنسي عليه، ولم تفلح المقاومة المسلحة في تغيير المشهد، وتطلب الأمر عقدين ونصف العقد، شهدت تبلور نخبة سياسية سورية، نضجت خبرتها بفعل التجربة، إلى جانب تطورات إقليمية ودولية كبرى، أدت في نهاية المطاف إلى استقلال سوريا.


قد ينفع فعل مقاطعة المسار التفاوضي حول "الدستور" السوري في جنيف، لو توافرت بالفعل، نخبة سياسية سورية ناضجة، وتتمتع بدرجة مقبولة من الاستقلالية عن الداعم الخارجي. وهو ما لا يتوافر اليوم. لذا، لا يبدو أن لدى السوريين أي خيارات الآن، باستثناء محاولة التأثير على داعميهم المختلفين، لتحسين المُنتج الأخير لهذا المسار التفاوضي حول "الدستور" السوري، بوصفه أبرز الخيارات المتاحة لمن يريد التأثير في رسم معالم المستقبل السوري.