إيران وإسرائيل تسدّان الفراغ العربي

وجيه قانصو
الأحد   2018/06/10

كشف الاتفاق الروسي الاسرائيلي الأخير الذي حدد مدى وحدود انتشار القوات الإيرانية وحلفائها، حقيقة الوجود الإيراني في سوريا، لجهة محدودية قدراته ومستوى نفوذه.  فلا هو قادر على منافسة الروس في حيازة مرجعية القرار النهائي في الداخل السوري، ولا هو قادر على كسر قواعد فك الاشتباك الذي حكم الحدود السورية الإسرائيلية منذ العام 1967، والتي برهنت إسرائيل قدرتها على تثبيت هذه القواعد عسكرياً ودبلوماسياً.

أظهرت جولة المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل داخل سوريا هشاشة القوة الإيرانية سواء لجهة مستواها التقني أو فعاليتها التدميرية مقارنة بإسرائيل، وبينت أن دخول إيران الراهن على حلبة الصراع العربي الإسرائيلي لم ولن يغير شيئاً في موازين القوة بين العرب وإسرائيل. بل تبين أن الوجود الإيراني لم يكن غرضه إحداث تحول لصالح العرب في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، بقدر ما هو وجود مرتبط، أداءً وخطاباً، بالمقتضيات الجيو استراتيجية والجيو أمنية لبقاء النظام الإيراني واستمراريته. سواء أكان لجهة خلق مدى وجود واسع خارج حدود إيران الطبيعية للحؤول دون حصار إيران أو عزلتها، أم  لجهة ربط مصير النظام الإيراني باستقرار المنطقة، بحيث يكون تهديد وجود النظام الإيراني تهديداً لأنظمة المنطقة وتعريضاً لمجتمعاتها بالتفسخ والانقسام والتشظي.

الوجود الإيراني في المنطقة العربية يشبه الوجود الإسرائيلي، لجهة أن كلاهما يقوم على ملء الفراغ الحاصل في المجال العربي. فإسرائيل تأسست على فكرة "أرض بلا شعب لشعب بلا ارض" أي اعتبار أرض فلسطين فارغة من الحياة المنتظمة والمنتجة، والسعي إلى إقامة كيان يعرف كيف ينشئ دولة ونظاماً وبنى إنتاجية حديثة وقوة دفاعية متفوقة.  أما النظام الإيراني فلم يسع إلى ملء فراغات موجودة، بل عمد إلى إحداث فراغات وفجوات في التكوين الاجتماعي العربي تارة وبناه السياسية تارة أخرى.

الفارق بين الوجودين، أن الإسرائيلي يستمر بضعف خصمه العربي وترهل تكوينه السياسي وتقليدية روابطه الإجتماعية وتخلف بناه الإنتاجية. أي يستمر بالاحتفاظ باليد العليا في مجال التفوق التقني والانتظام العقلاني.  أما الوجود الإيراني، وبحكم أن الواقع الإيراني لا يحمل تفوقا نوعيا على الواقع العربي سواء أكان في مستوى تقدمه التقني أو بنيته السياسية، فإنه يستمر بتقطيع أوصال المجتمعات العربية، وتهميش وإضعاف كياناتها السياسية عبر زرع ولاءات منافسة ومقوضة لولاء الدولة، وتضخيم هويات خاصة لغرض توهين التضامنات الاجتماعية المحلية وإضعاف الهوية الوطنية الجامعة فيها.

من هنا، فإن الصراع الإيراني-الإسرائيلي يتمثل في التنافس على احتلال مساحات الفراغ القائمة أو المستحدثة في المجال العربي، وفي تشكيل المنطقة العربية وفق ما يستجيب لمقتضيات بقاء ومصالح كل من الطرفين، مع فارق كبير في استراتيجية كل منهما. فالإسرائيلي يهمه الاحتفاظ بتفوقه وبقاء الواقع العربي في حالة ضعف وتراجع وتخبط، أما الإيراني فيهمه تفكيك التكوينات المجتمعية العربية وزعزعة كياناتها السياسية ليكون للنظام الإيراني موطىء قدم فاعل ومستقل في أكثر من بلد عربي.  اسرائيل ترصد الواقع العربي من خارجه وتقيِّم مساره العام بتجلياته العلمية والتقنية والسياسية حيث يقلقها أي تطور أو نهوض فيه، أما إيران فترصد الواقع العربي من داخله لاختراقه عبر تكوينات مذهبية خاصة أو أقليات مغبونة أو مهمشة أو خائفة أو ناقمة. إسرائيل تراهن في استمرارها على تخلف العرب ولاعقلانيتهم، وإيران تراهن على الفوضى داخل المجال العربي وهشاشة الإجتماع العربي. إسرائيل تراهن على حداثتها وتفوقها العلمي، والنظام الإيراني يراهن على قبضته الحديدية في ديمومة إمساكه بالسلطة والحكم.  

اللافت أن الطرفين، الإيراني والإسرائيلي، لا يهمهما نقل أو تصدير نموذجهما إلى المجال العربي. فلا إسرائيل تريد للعرب تطورا علميا وانتظاما سياسياً، ولا إيران تريد للجوار العربي أنظمة قوية متماسكة. لأن غرض كل منهما بقاء الفراغ والخلل الذي يحفظ لكل منهما تفوقه ونفوذه ويده العليا في المنطقة.

قد ينتهي الصراع بين الطرفين، الإسرائيلي والإيراني، بوضع قواعد فض نزاع بينهما، يضمن لكل منهما مقتضيات بقائه وضرورات أمنه الاستراتيجي.  ولعل الاتفاق الأخير مع إسرائيل الذي حصل برعاية روسية ورضى إيراني كامل، يدل على بداية أداء جديد للنظام الإيراني في المنطقة، تكون فيه البراغماتية الخالصة أكثر صراحة وظهوراً في نشاط وخطاب السياسة الإيرانية.  هو أداء يتسم بوضع النظام ادعاءاته الأخلاقية جانباً، ورمي طوباوياته الأيديولوجية خلفه، والكف عن معزوفة تصدير الثورة بعدما تبين بعد مرور أربعين عاماً على عمر هذه الثورة أنه لم يكن فيها شيء قابل للتصدير.