افتراق شيعة العراق ولبنان

وجيه قانصو
السبت   2018/05/19
أظهر مشهد الانتخابات الأخيرة فارقاً كبيراً في صورة الحياة السياسية داخل الطائفة الشيعية الإمامية في كل من العراق ولبنان، سواء أكان في اللوائح المتنافسة أو الخطاب الانتخابي أو نتائج الاقتراع، عكست جميعها ولاءات سياسية ومزاجاً شعبياً ودينامية اجتماعية مختلفة في كل من البلدين.

في العراق كان هنالك تنافس حقيقي وقوي بين اللوائح، لكل منها برنامجها وأولويتها، ومساحة منافسة فعلية وحقيقية متاحة للجميع، أعطت للوائح حظوظاً متساوية نسبياً في إيصال برنامجها وعرض رؤاها أمام الناخب العراقي، ما وفر له خيارات متعددة لحظة اقتراعه، جعلت نتائج الانتخابات مرآة حقيقية نسبياً لمزاج الاجتماع الشيعي.

أما في لبنان، فكان التنافس صورياً. حيث اختَزَلَ التحالفُ بين حزب الله وأمل مشهدَ الانتخابات، ليتحول من منافسة فعلية بين لوائح، إلى استفتاء على التجديد لتشكيلة المرشحين أنفسهم وعلى نسبة توزيع الحصص المتساوية بين التنظيمين.

المعضلة الأكبر في لبنان، هو غياب التساوي في فرص جميع المرشحين في عرض برامجهم ورؤاهم. سببه من جهة ضعفُ إمكانات اللوائح الجديدة وهزالة ماكناتها الانتخابية وقلة خبرتها في مجال التنافس الانتخابي. وسببه من جهة أخرى غياب التكافؤ في التنافس.  فحين تكون وسائل المرئي والمسموع موزعة بحسب خريطة قوى الأمر الواقع، وحين لا يضمن المرشح الجديد غير الموالي للقوى النافذة فرصته في التعبير السياسي الكامل بل حتى سلامته الجسدية داخل بيئته الاجتماعية، وحين تقسم المناطق الجغرافية أو السكنية مناطق نفوذ بين القوى الحزبية لا مناطق إدارية رسمية، وحين تكون الأمكنة الاجتماعية أو الدينية (حسينيات،  مساجد، شوارع، ساحات عامة) تحت سيطرة حصرية للقوى السياسية النافذة، وحين يكون النشاط الثقافي المتنوع محظوراً أو محرماً إلا على اللون الواحد، وحين يمتد النفوذ الحزبي إلى مناطق وأمكنة عامة يفترض بها أن تكون تحت إدارة الدولة ونفوذها. حين ذلك كله، يكون لدينا بيعة لا تنافساً، ولعبة انتخابية تتكرر نتائجها مثلما يتكرر الرقم نفسه في رمية النرد الملغوم مهما تعددت الرمية واختلف الرامون.

ما فعلته القوى المتنفذة، حزب الله على وجه الخصوص، أنها لم تكتف باتخاذ القرار وفق تفضيلاتها وشبكة مصالحها، بل عمدت إلى منع أي تحد كامن أو ظاهر لقيمها ومصالحها، من خلال تعطيل باقي القوى عن تقديم تفضيلاتها وإعاقتها عن حضور ساحة التنافس السياسي وصدها عن الظهور إلى الواجهة، ليكون بالإمكان خنقها قبل أن تُسمع أو تبقى مغطاة ومطموسة، وتسمح فقط بالتفضيلات التي تُقدِّرُ هذه القوى مسبقاً أنها لا تضرها وتضمن لها التفوق والأغلبية، ما يعزز من شرعيتها إثر منافسة انتخابية غير متكافئة بينها وبين خصمها.

في العراق كان أساس التنافس سياسياً، يقوم على برنامج العمل وأولوية الدولة وخياراتها الاستراتيجية القادمة. أما في لبنان فالتنافس كان واقعاً بين خيارين غير متكافئين: خيار هزيل في كسر حصرية التمثيل النيابي للطائفة الشيعية وإفساح المجال لتعددية سياسية فعلية لا شكلية داخل الطائفة، وخيار آخر كاسح في تثبيت أُبوة القوى المتنفذة للطائفة، عبر تأكيد قدرتها على حمايتها وتأمين مصالحها وتدبير شؤونها ورعاية أمور أفرادها وتجسيد قيمها وإقامة شعائرها وطقوسها وتمثل مآسيها، مقابل الولاء غير المشروط لهذه القوى.

كان التنافس بين اللوائح الشيعية في العراق على خيارات الوطن كله، أي كان خياراً سياسياً، ما جعل خطابها عابراً للخصوصية المذهبية. أما في لبنان فكان التنافس على خيار الطائفة ومصيرها. ما غلب على وعي الناخب قلق البقاء والأمان لا هواجس الحياة وآمالها وتطلعاتها.  وهو ما يفسر تضخيم القوى في خطابها التعبوي لخصوصية الطائفة الرمزية والمبالغة في معتقداتها وطقوسياتها وشعائرها الدينية، لا لمغزاها الروحي أو حتى الأخلاقي، بل لأنها تؤدي وظيفة اجتماعية-سياسية تغذي لديها غريزة البقاء وتُقوِّي الشعور بالتفوق والتمايز والحاجة إلى الأمان.

في العراق أعطت المرجعية الشيعية كامل المشروعية للحياة الديمقراطية وترك المواطن وخياره. في لبنان تم تعميم التكليف الشرعي وانتشار الفتوى بحصر الاقتراع بجهة ومرشحين إنتصاراً للعقيدة وللمذهب. ما أعطى للانتخاب بعداً عقائدياً وضع الناخب أمام الاختيار المؤلم بين الإخلاص لإيمانه ومعتقده من جهة وبين قراره السياسي الحر والمستقل من جهة أخرى.

في العراق أظهر تنوع التضامنات والميول السياسية داخل الطائفة الشيعية كبرياءاً وطنياً وصعوبة في اختزال خيارات شيعة العراق الداخلية والإقليمية بموقف واحد أو تبعية معينة.  في لبنان كانت الانتخابات بمثابة تجديد ولاء ضمني كاسح لنظام ولاية الفقيه في إيران، وضع لبنان من جديد ورقة رابحة لها في سياق طموحاتها الإقليمية ورهاناتها الدولية.

الأبرز في نتائج الانتخابات هو توزع أصوات الشيعة العراقيين بين لوائح عدة، ولم تتمكن لائحة واحدة من حصد أكثرية الأصوات، في حين حصد الثنائي الشيعي في لبنان ليس أكثر الأصوات فحسب، بل كل الأصوات الشيعية تقريباً.

هل هذا يعني غياب دينامية اجتماعية داخل الطائفة الشيعية في لبنان، جعلت العلاقة السياسية تقوم بين تابع ومتبوع دائم لا بين مواطن وممثل (Representative) مؤقت؟ بالطبع لا، فالتكوين الشيعي يحمل في داخله حيوية ثقافية ومرونة اجتماعية لافتتين، إلا أنها حيوية ومرونة لم تترجم انتظاماً مدنياً وسياسياً ينقل الاجتماع الشيعي من هاجس بقاء (Survival Mode) مصطنع، إلى فاعلية سياسية تعنى بشروط الحياة المتدفقة والخصبة. هو إخفاق، لا يمكن أرجاعه إلى إعاقة القوى المتنفذة لتحقيق هذا التحول فقط، رغم حرصها على  تأبيد المشهد السياسي الحالي. بل يعود إيضاً إلى فقدان دينامية اجتماعية-اقتصادية-ثقافية داخل الطائفة الشيعية تكون قادرة على تغيير أصول وقواعد ممارسة السلطة وتوزيعها ومبادئ الإنصياع والمشروعية وعلاقات الولاء والتبعية، قبل تغيير الأشخاص والجهات. إنها قضية تطال عمق الانتظام الشيعي في التاريخ وفي الحاضر وتحتاج إلى عناية بحثية للكشف عنها.

أخيراً فإن التحالف بين الثنائي الشيعي حزب الله وحركة أمل، رغم التباين العميق في أولويات كل منهما السياسية وتكوينهما الثقافي والأيديولوجي، ساهمَ في تعطيل المنافسة الفعلية وأفقد الانتخابات حيويتها وقوة تعبئتها، وحصر خيار الناخب الشيعي بخيار واحد محسوب مسبقاً بدقة، هو خيار: إما أو، نعم أو لا، مع أو ضد. وهو خيار وضع الناخب أمام مديونية ولاء ومطالبة بالإخلاص والوفاء، وألقى على كاهله أحاسيس ذنب وتأنيب ضمير وحتى شعوراً بالخيانة لو اعتمد خياراً مختلفاً.

أعلم أن التحالف بين أمل وحزب الله، لا يقوم على وحدة رؤى وبرامج مشتركة توحد القوتين، بقدر ما هو استجابة لمخاوف متبادلة بينهما في اختبار كل قوة منهما لحجمها الشعبي ووزنها السياسي مقابل القوة الأخرى، وحذر من أن يدفع التنافس السياسي بين القوتين إلى توترات داخل المجال الشيعي قد تخرج عن السيطرة.  لكن، قد نجد لهذه المخاوف ما يسوغها، لكن أثمان إماتة الحياة السياسية داخل الاجتماع الشيعي أغلى من ذلك بكثير.

من الواضح اننا أمام مسارين شيعيين مختلفين ، أحدهما عراقي بدأ يعيد إنتظامه الاجتماعي والسياسي على شرط الدولة ، ويتعلم كيف يتعامل مع اختلافه وتنوعه بإيجابية ، والآخر لبنان ما تزال السياسة عنده إثبات وجود ومعركة بقاء، والدولة مكاسب سلطة ومواقع نفوذ لا مجالاً عقلانياً  لإدارة الحياة بتنواعاتها وتلاوينها. مساران باتا نموذجين متنافسين لسياسية شيعية عربية.