مترو القاهرة: أنبوب القمع

شادي لويس
الثلاثاء   2018/05/15
"عند بوابات الدخول إلى المحطات تنتهي سيجارتك وبصاقك التي تعاقب عليها الغرامات القانونية، وبهذه التذكرة الصفراء الملتقطة من شباك زجاجي عبر طابور منتظم يتحول الراكب إلى رقم بين محطتي الركوب والوصول، تصبح التذكرة الصفراء بطاقة هوية مؤقتة تنظم علاقة المناخ التسلطي لنظام الأنفاق بركابه... ومنذ اللحظة الأولى لدخولك تلك المحطات تضعك المدينة عند عتبات القمع الأولى. أنت مراقب بالكاميرات الأمنية، ممنوع عليك حمل الأمتعة الثقيلة ـ من دون حدود قانونية محددة بل وفقاً لأريحية ضباط أمن المحطات ـ ممنوع من التدخين ومن تفويت مترو، من الحديث بصوت عال ومن الحركة المريبة ـ من دون تحديد معيار قانوني واضح لما هو مناسب أو غير مناسب ـ ينتشر عساكر وأفراد الأمن السريين والعلنيين لمراقبة كل شاردة وواردة في عالم الرصيف فقط. وبمجرد صعودك من الأبواب يمثل جسد المترو المعدني المندفع حاضنة لأجساد جري تهذيب سلوكها بتأن".

لولا ذلك الإلحاح والدأب الذي كتب به الصحافي الراحل هاني درويش، عن مترو أنفاق القاهرة، وعما فعله بعمران المدينة وسكانها، وعن حصص فضاءاته الشحيحة والصراعات اليومية عليها، لربما غاب عنا الكثير مما تموج به تلك "الأنبوبة البشرية" كعالم مستقل بذاته، وثقل ما طبعته على ديموغرافيا العاصمة من فوقها. بين عشرات المقالات والنصوص، التي نشرها درويش عن مترو أنفاق، على مدى أكثر من عقد، كانت مقالة "أهلاً بك في مدينة أنفاق اغتراب القاهرة" (جريدة "المستقبل" اللبنانية، 2007)، هو الأكثر حصافة وعمقاً في كشف المناخ "التسلطي لنظام الأنفاق"، وعن النفق بوصفه عتبة لولوج عالم من الضبط الكامل والإخضاع، أو كمدخل لفرض ما يدعوه هو بكلماته "الإحساس بالقوة الجبرية لسلطة المدينة"، وسقوط دوري تحت سطوتها. 

فالمرفَق الذي كان خاضعاً لإدارة "الشركة الفرنسية" لبضع الوقت، قبل أن ينتقل للإدارة الحكومية، لم يكن فقط وسيلة المواصلات الرئيسية والأكثر كفاءة لملايين القاهريين، ومحدداً لهجرات وإنزياحات سكانية كثيفة حددت شكل القاهرة التي نعرفها اليوم. بل كان أيضاً دلالة على الحضور الثقيل للدولة في الفضاء العام، في حين كان دورها الاجتماعي قد بدأ في التراجع.

في نهاية الثمانينات، كان مترو الأنفاق هو الساحة الأولى التي تعرض فيها القاهريون، وغيرهم من الوافدين إلى العاصمة يومياً، لتلك الصور من المراقبة والضبط عالية التقنية وشديدة الثقل، لتصبح محطاته وعرباته كما يتصورها درويش "مصنعاً للسجق" البشري وساحة تدريب على "تهذيب الأجساد"، ومن ثم لفظها إلى أعلى. لم تكن الحملات الدورية التي يقوم بها أمن محطات وسط المدينة بالتقاط الركاب عشوائياً، وتفتيشهم واحتجازهم وترحيلهم إلى أقسام الشرطة في بعض الأحيان، معنية بضبط المِرفَق نفسه، بقدر استهدافها لضبط المدينة كلها وإخضاع سكانها عبر الإمساك بخناق عمودها الفقري، أي المترو. وفي خضم حالة الاضطراب التي أعقبت ثورة يناير، كان واحد من أكثر وسائل السلطة استخداماً لضبط المدينة أو أجزاء منها، هو إغلاق محطات بعينها، ولفترات طويلة. فذلك الحيز الأنبوبي الضيق، وعرباته المعدنية، وماكينات الدخول والخروج، أتاحت التحكم في ثلاثة ملايين من البشر يومياً، وفي مسارات الحركة في العاصمة، بواسطة بضع مئات من رجال الأمن لا أكثر، وبأقل مجهود.

طرأ على مترو الأنفاق وقاهرته، الكثير من التغييرات منذ أن نشر درويش مقالته تلك. لكن، ومع هذا، فإن مضمونها مازال صالحاً للتأمل. فزيادة سعر تذكرة المترو الصفراء، "بطاقة الهوية المؤقتة"، كما يطلق عليها درويش، والتي ارتفعت بمقدار 100% العام الماضي، ثم بنسبة 250% منذ أيام، أي بمعدل زيادة خمسة أضعاف في أقل من عامين، لا تبدو مدفوعة بعوامل اقتصادية كما تدعي الحكومة، بل ربما بدوافع عقائدية وأغراض الإخضاع والضبط.

ففي ظل خطة الحكومة الأوسع لرفع الدعم كلياً عن المحروقات، والتي ساهمت في تضاعف أسعار المواصلات وكلفة النقل الخاص والعام إجمالاً، مع حالة الاختناقات المرورية شبه الدائمة في شوارع العاصمة، كان يفترض بالدولة أن تواصل دعمها المالي لوسيلة المواصلات الأكثر استخداماً وكفاءة، لصالح ملايين المصريين من محدودي الدخل، خصوصاً أن قيمة الخسائر التي أعلنتها إدارة المرفَق عن الأعوام الأربعة الماضية، كانت في متوسط 150 مليون جنيه مصري في العام، أي ما يقل عن 10 ملايين دولار سنوياً، وهو مبلغ يبدو شديد الهامشية في الموازنة المصرية والمصروفات الحكومية. ولا يمكن فهم إقدام الحكومة على مضاعفة قيمة التذكرة، مرات عديدة، بهذا الشكل الصادم، وإشعال غضب الملايين من سكان العاصمة، ودفع الأمور إلى حافة الانفجار، من دون مردود مادي يذكر في الحقيقة، سوى بالنظر إليها بوصفها سياسات تقشف "مدفوعة إيديولوجياً".

فإجراءات التقشف وخفض الإنفاق، التي تقدم عليها الحكومات، لا تهدف دائماً إلى تحقيق أغراض التوفير بالضرورة، خصوصاً إذا كانت تلك الحكومات تنفق المليارات على صفقات السلاح، أو في مشاريع بلا عائد على الإطلاق. بل إن بعض إجراءات التقشف، في أحد البنود، ربما تنجح في التوفير من ناحية، لكنها تزيد الكلفة من ناحية أخرى، وتنتهي في المحصلة بالتبديد. وفي أحيان أخرى، لا يبدو التوفير المالي متناسباً مع الكلفة الاجتماعية الفادحة التي يتطلبها، أو المصروفات الأمنية والخسائر السياسية التي سيتسبب بها إخضاع التوتر الاجتماعي. لكن، ومع إدراك الحكومات لكل هذا، فإنها أحياناً تنفّذ قرارات تقشف ذات كلفة فادحة، اجتماعياً وسياسياً بل ومالياً أيضاً، لا لشيء سوى لتمسكها بأجندة إيديولوجية بعينها، وعزمها على فرضها بأي ثمن. 

ففي مقابل توفير أقل من 10 ملايين دولار سنوياً، تعرّض الحكومة ملايين الأسر القاهرية لهزة مالية عنيفة، ستؤثر في مستوى معيشتهم المتدهور بالأساس بشكل فادح. كما تستدعي قوات مكافحة الشغب للمحطات، فيما يقطع الركاب حركة القطارات ويهتفون بالسباب للرئيس، وتلقي القبض على العشرات، مواجهةً احتجاجات كانت قد نجحت في القضاء على مجرد تصور حدوثها. 

يقبل النظام بتلك الكلفة الاجتماعية والأمنية والسياسية، بكل رضى، لترسيخ برنامجه العقائدي، والتأكيد على انسحاب الدولة من كل صور الدعم الاجتماعي، بأي ثمن، وتحرير الأسواق بالكامل. لم تكن تذكرة المترو، أولى خطوات رفع الدعم التي اتخذها النظام، بالتأكيد. لكنها كانت أولى تلك الخطوات التي قادت إلى اندلاع الاحتجاجات. كما إن المترو كان المكان الأنسب لقمع تلك الاحتجاجات بكل يُسر. فترسيخ "أجندة الإصلاح"، التي تدفع كلفتها الغالبية من ذوي الدخل المنخفض، تحديداً في مترو الأنفاق، أي العمود الفقري لمنظومة ضبط العاصمة ومصنع الأجساد المخضعة وساحة حضور الدولة الأمني الأثقل، يبدو خطوة جوهرية. وفعلاً، له دلالة رمزية ثقيلة، لصالح فرض البرنامج النيوليبرالي والسلطوي الأوسع الذي ينتهجه النظام، وإخضاع الجميع له بغض النظر عن الكلفة والقمع.