شكراً إيران

ساطع نور الدين
السبت   2018/05/12

التاريخ يعيد نفسه، الى المكان الصحيح ، والزمان الدقيق. إنه يعود الى حيث كان  يجب ان يبدأ، الى العام 1970، او قبله بقليل.. لكي يكمل سيرة جبهة حرب فتحت في تلك الفترة، وها هي اليوم تسلم الراية الى جبهة شقيقة، وتستعد لإسدال الستار على الفصل الاخير من سيرتها المؤلمة.

 الفضل في تلك العودة ينسب الى طهران وحدها، ولا أحد سواها: الجولان أصبح، وبعد طول إنتظار، جبهة مواجهة مفتوحة مع العدو الاسرائيلي، بقرار إيراني حاسم لا رجعة فيه، يعيد الى الاذهان القرار الفلسطيني بفتح جبهة جنوب لبنان في سبعينات القرن الماضي. وفي الحالتين، لم يكن النظام السوري، وهو نفسه الحاكم حتى اللحظة، أكثر من شاهد أو  منفذ.. او  مساهم في الاستثمار.

وكما تدرج جنوب لبنان في منتصف القرن الماضي من "فتح لاند" الى قاعدة عسكرية متقدمة ومنصة سياسية مهمة لمنظمة التحرير الفلسطينية، ها هو جنوب سوريا يتحول من نافذة إيرانية صغيرة تطل منها الخلايا والشبكات الامنية على مواقع العدو الاسرائيلي،الى منطقة عسكرية رئيسية تنتشر فيها قواعد طائرات الدرون والصواريخ والمدافع،المعدة لإشتباك طويل الامد، يرتبط بطول زمن الصراع وصمود الكيان الصهيوني..وقدرة دمشق على الاحتمال.

المناوشات المتكررة لا تترك سوى هذا الانطباع الذي ترسخ في اعقاب الاشتباك الصاروخي الاخير  العابر للحدود والاجواء السورية فجر الخميس الماضي: الاداء الايراني كان نسخة طبق الاصل عن الاداء الفلسطيني المحفوظ في ذاكرة الجبهة اللبنانية، وكذلك كان الاداء الاسرائيلي الذي بدا أنه يعتمد غارات جوية وعمليات عسكرية مستوحاة بالكامل من خرائط وملفات تجربة لبنان. حتى الاختراقات الاستخباراتية الاسرائيلية في الحالتين كانت واحدة، ومعها طبعا الخطابات السياسية المتبادلة الحافلة بمصطلحات أقلها التصفية والابادة والإزالة من الوجود.

تفاصيل الاشتباك الاخير الذي يبدو أنه كان واحداً من أكثر المناوشات الاسرائيلية الايرانية إنضباطاً وإنتظاماً ، تقدم أدلة دامغة على ان جنوب سوريا بات الوريث الشرعي والوحيد  لجنوب لبنان: إسرائيل تتلقى مسبقاً معلومات إستخباراتية عن استعداد ايران لتوجيه ضربة صاروخية محدودة الى مواقع عسكرية اسرائيلية قريبة من الخط الفاصل في الجولان. تنطلق الصواريخ التي لا تختلف في قوتها ودقتها ومداها عن الصواريخ الفلسطينية المستخدمة في الماضي من جنوب لبنان، فيخرج الطيران الاسرائيلي ليشن غارات واسعة النطاق على قواعد عسكرية إيرانية  في سوريا، تذكر بالغارات التي كان يشنها في السبعينات والثمانينات على القواعد العسكرية الفلسطينية المنتشرة على الاراضي اللبنانية.

قبل الاشتباك كان هناك تهديدٌ اسرائيليٌ بضرب قصر الرئاسة السورية وإسقاط الرئيس بشار الاسد، تماما كما كان قصر الرئاسة اللبنانية في بعبدا وكما كان النظام اللبناني يتعرض لمثل هذه التهديدات.. قبل ان يتبين ان الامر لا يعدو كونه من لزوميات الحرب النفسية، التي تستدعي رفع سقف الخطاب الى ما فوق مستوى تحليق الطيران الحربي والصواريخ وقذائف المدفعية.. وقبل ان يتأكد الجميع أن العاصفة إنتهت، وأن الصاروخ الاول (الفلسطيني سابقا والايراني حاليا ) كان هدفه إثبات الوجود وتغيير قواعد اللعبة، وحتى طلب التفاوض.. وان الغارة الاسرائيلية الاخيرة كان وما زال هدفها رفض ذلك الطلب، وتحديد شروط مستحيلة لاي مفاوضات.

ايران تحيي  اليوم في سوريا تجربة فلسطينية ماضية في لبنان. وكذلك تفعل اسرائيل. حتى الحزام الامني الذي أقامته في الجنوب اللبناني يرتسم الان في الجنوب السوري، وبعمق 40 كيلومترا أيضاً ، ويجد عملاء ووكلاء ومتحمسين في البيئة السورية المعارضة المتاخمة لخط الحدود، ما يفسح المجال لاحقاً لإقامة "جدار طيب"جديد، وبوابات عبور سورية نحو الداخل الاسرائيلي لاتقل سوءاً وخطورة عن الجدار اللبناني السيء الذكر.

وقائع الايام والاسابيع الاخيرة، أثبتت بما لا يدع مجالا للشك ان المخيلة الايرانية والاسرائيلية محدودة، ضيقة الافق، يعوزها الابداع والابتكار.. لكنها تعكس حتى الان على الاقل تفاهماً ضمنياً  على بند جوهري، هو  أن جبهة لبنان استنفدت وما عادت تخدم الغرض منها، ولم يبق منها سوى صواريخ حزب الله الموجودة على الاراضي اللبنانية، والتي يبدو أنها لن تستخدم الا إذا جرى المس الاسرائيلي او الاميركي بالاراضي الايرانية. وهي معادلة واقعية ومطمئنة: تل ابيب مقابل طهران، بدلا من ان تكون تل ابيب مقابل بيروت او النبطية او الخيام.