إكذب .. الصورة تطلع حلوة!

محمد طلبة رضوان
الأحد   2018/02/04

لماذا نضحك أمام عدسات الكاميرات، والموبايل، لماذا نتعمد تزييف ملامحنا وأوضاعنا التشريحية، لماذا نحرص على تسجيل لحظة زائفة، وما قيمة ضحكة أو ابتسامة أو بهجة أو حتى حزن مصطنع وغير حقيقي؟


يرى ديبور” أن ثمة صلة قرابة بين الموت والتصوير، "ألم تر إلى المصور وهو يصوب نحو الهدف ويضغط الزناد، إنه يقتل اللحظة، يحولها إلى حضور وهمي، تذهب اللحظة إلى غير رجعة، يذهب الأصل، وتبقى الصورة" .. يشاركه “رولان بارت”، فيقول "أنه لم يشعر يوما بأصالة الصورة، وأن كل مرة

كانت تؤخذ له لقطة بالكاميرا كان يراوده إحساس بالزيف وعدم الأصالة" ..


نحن نقتل كل لحظة نتعمد تصويرها على غير حقيقتها، حتى لو كانت الصورة أجمل من الأصل، فالقبح الحقيقي خير من الجمال الزائف، صورتنا، الشخصية، السياسية، الثورية، النضالية، المهنية، الاجتماعية، صورتنا على الشاشات، في الجرائد، على حساباتنا الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، صورتنا أمام الجماهير، القواعد، "الأولتراس"، "الفانز"، صورتنا أمام مرايانا، إن معالجتنا لكل هذه الصور هي في حقيقتها جرائم شروع في قتل يومي ..!!


في مصر، يحرص النظام على الصورة حرصه على البقاء، ربما لأن بقاءه مرتبط بتزييف الصورة، باعتقالها، بإطلاق النار على اللحظة الحقيقية وتخليد نظيرتها الزائفة، بوصف ديبور، وفي الوقت نفسه يجرم النظام نفسه فكرة "التصوير" في المجال العام، ويحرص على ملاحقتها حرصه على ملاحقة خصومه، ربما لأن خصمه الحقيقي هي الصورة إذا تجاوز طرفاها حد الزيف القانوني المسموح به !!


زملاء كثيرون، صحافيون، وحقوقيون، ونشطاء سياسيون، محبوسون الآن بتهمة "حيازة كاميرا"، ذلك لأنهم يصورون "أشياء" لا أشخاصا، وليس للأشياء قدرة البشر على تزييف حقيقتها، كما أنهم إذا التقطوا صورا لآدميين فهي صور لأناس لا ينتبهون بالفعل لعدساتهم الكاميرا، فَلَو انتبه المقتول إلى قاتله لعاش، ولذلك تصبح الصورة - رغما عنها - حقيقية، والحقيقة في نظر الأنظمة الفاشية، جريمة!


في اسطنبول، وغيرها من المنافي الثورية الاختيارية، ثمة مصيبة اسمها "صورة" المعارضة في الخارج، تحت هذه اللافتة الساذجة ترتكب جرائم قتل يومية، جرائم سياسية، وإعلامية، ودينية، وأخلاقية، جرائم قتل لتطلعات الشباب، وأحلامهم التي لا زالت تطاردهم في المنافي، فكرتهم عن الدين، عن القيمة، عن الجدوى، عن العدل، عن كلمة الحق، وعن حق الكلمة، عن نخبهم، وشعاراتهم، وربيع ثوراتهم وخريفها، عن أنفسهم!


هنا، يحرص المصورون على سلامة "اللقطة" من الحقيقة، يحرصون على تصويب الزناد وقتل الأصل لصالح الصورة، صورة المعارضة النضالية المتجردة الصادقة، الواعية، التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، إنما يأتيها من تربص الأجهزة الاستخباراتية، وقوى الشر الكونية التي تتآمر على "حلاوة" الصورة!


الشيء نفسه يحدث في منافي الثورات العربية المختلفة، حكايات وروايات وبلاوي سودا، يتناقلها الشباب، ربما لا تقل بشاعة عن حكايات السجناء والمعتقلين وإجرام أنظمة السيسي وبشار معهم ومع أهلهم وذويهم، لكنها حكايات "منتقبة"، وربما ينكرها من حكى إذا حكاها من سمع، فالكذب حلال، ولعله فرض عين، طالما أن الصورة حلوة، الكذب ستر، وصبر، وحكمة وكياسة وحسن تقدير للأمور، وتخطيط ومسئولية، الكذب سياسة، هكذا يتعلم الشباب من "كريزة كريمة" مجتمعاتهم النضالية الثورية، مجتمعات "الصورة"!


إن الدول والأنظمة، والمجتمعات التي تخشى عرض مشاكلها، بل وفضائحها، وتشريحها، إلى هذا الحد المرضي، لن تنجح، ولن تصل إلى شيء، ولن تتجاوز فشلها الدائم والمقيم، ولو تمترست خلف أطنان من شعارات الحرية والليبرالية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية، فلا كرامة لكاذب، وإن تدثر بشعارات الشرعية والشريعة وحكم الله، وهي لله، وتحول مع الممارسة إلى "كذاب" لوجه الله والثورة ودعوات المعتقلين ودماء الشهداء!


إن "كذب" الصورة يخلق مجتمعات فاشلة وجماهير فاشلة وأفكاراً فاشلة وأديان فاشلة، ونضالاً كاذباً وزائفاً وفاشلاً، ومناضلين كذبة وخونة لأفكارهم وأنفسهم، ومعارضين، بالضاد العارية، هم أقرب إلى أخلاق الأنظمة التي عارضوها، ولو أتيحت لهم الفرصة إلى مشاركة هذه الأنظمة مكتسباتها ومنتهباتها لانتقلوا فورا إلى موضع آخر من "الكادر" لا يقل تزييفا ولا يقل حرصا على الحفاظ على سلامة "الصورة"!


لا أدعو إلى التخلي عن "الصورة"، في المطلق، فهي جزء من قضيتنا، وبعض من فكرتنا وحرفتنا، إنما أدعو إلى الاعتداء على صاحبها، إلى انتهاك حقه في التزوير والتزييف، الذي بات مشروعا، إلى اقتحامه دون إذن منه يمنحه فرصة لقتل اللحظة الأصلية! أدعو إلى مقاومة حقيقية، فلا معنى لمقاومة قاتل لقاتل!