الغاز: رأسمالية وشوفينية كروية

شادي لويس
الثلاثاء   2018/02/27
منصة إسرائيلية للغاز غربي مدينة أشدود (رويترز)
هل هناك من يذكر مسألة الغاز؟ فبعد أسبوع على إعلان نتنياهو إبرام صفقة لتصدير الغاز لمصر، يبدو القليل من الغضب الذي تم التعبير عنه آنذاك وقد تلاشي بالفعل. وللأسف لم يكن أحد ليتوقع أكثر من هذا. فالنظام المصري أتقن واحدة من أكثر حيله فاعلية في التعامل مع معارضيه. صدمة وراء أخرى، من دون فرصة لالتقاط الأنفاس، تعزز شعور المعارضة بعجزها عن الفعل، وتصل بها إلى قناعة بأنه لا جدوى حتى من الاعتراض.

أما الجمهور الأوسع من المواطنين، فيتوجه له النظام بخطاب أكثر "عقلانية". ومع أن خبر الصفقة، التي وصفها نتنياهو بالـ"عيد"، قد وصل للمصريين من إسرائيل لا من حكومتهم، إلا أن النظام كان جاهزاً لتبرير الصفقة ومنطقتها. فبعد يومين، وفي خلال زيارته لمركز لخدمات المستثمرين، أثنى الرئيس عبدالفتاح السيسي على اهتمام المصريين بصفقة الغاز، لأنه دلالة على "خوفهم على بلدهم". لكن الرئيس سرعان ما طمأنهم بأنه لا داعي للخوف. فمصر ليست طرفاً في الصفقة بالأساس. وبحسب الرئيس، وهذا صحيح، الصفقة تمت بين إسرائيل والقطاع الخاص. أما دور الدولة فهو "التصدي للشائعات، والحديث بوضوح".

هكذا، يقدم الرئيس النسخة الأكثر يمينية من صورة الدولة في حدودها الدنيا. فالحكومة في مصر لا علاقة لها بأنشطة القطاع الخاص، سوى في محاربة الشائعات، أو بمعني آخر تكميم المعارضة، وإخراس أي محاولة للتساؤل عن تفاصيل الصفقة ومدى أخلاقيتها. وكما أن الدولة تنسحب رويداً رويداً من دورها في الدعم الاجتماعي داخلياً، فإنها أيضاً تنسحب من مجال الطاقة وإدارة ملف مواردها وتنظيم علاقاتها مع الجار الاستعماري، لصالح القطاع الخاص. لا يخفي الرئيس دور الدولة الفعال هنا، فهو ينحصر في حماية أنشطة القطاع الخاص، والتكفل أمنياً بسحق ما يقف أمامها. أما الشفافية، فيعدنا السيسي بأنه ليس هناك ما يخفيه، لكنه لن يستطيع أن يكشف لنا عن أكثر من هذا. فالعلاقة ببساطة مغلقة بين إسرائيل وشركة خاصة، والدولة مطلعة. لكننا، ببساطة، لن نعرف ما يدور بين تلك الأطراف الثلاثة.

تثبت جدلية السوق فاعليتها مرة بعد أخرى. فالمنطق الرأسمالي "دعه يعمل.. دعه يمر"، ينفي سؤال الأخلاق والواجب والتاريخ والمسؤولية وغيرها، لتبقى حسابات المكسب والخسارة وحدها الفيصل في التقييم. وبما أن القطاع الخاص هو من يتصدى لتلك الصفقة، فلا يمكن طرح سؤال المصلحة العامة هنا. ببساطة ينتهي بنا ذلك المنطق إلى التسليم بأن كل نشاط اقتصادي، مهما بلغت حيويته، ليس سوى شأن خاص بحَمَلة أسهم الشركات الخاصة، وملاكها.

لكن الرئيس يعود بنا إلى العام مرة أخرى، عبر إحالات كروية: "إحنا جبنا جون يا مصريين في موضوع الغاز". يخبر السيسي جمهوره بأن الدولة ستحصّل موارد مقابل التسهيلات والبنية التحتية التي سيستفيد منها القطاع الخاص. لكن الربحية المادية ليست كل شيء، فالتلميح إلى تغلب مصر على تركيا، بخطفها مركز الطاقة الإقليمي في البحر المتوسط، الذي كانت تسعى إليه أنقرة، هو المكسب الوطني الأكبر. وتبدو جديرة بالاهتمام والسخرية في آن واحد، تلك التحولات في خطاب الدولة المصرية. فبدلاً من إسرائيل التي كانت العدو الرئيسي، جاءت تركيا لتحل محلها. بل أصبح التعاون مع إسرائيل إلى أقصى مدى، نكايةً بأنقرة، أمراً يستدعي الاحتفال. لكن، ولأن أمر العداء لتركيا أو قطر وغيرهما، يبدو تافهاً إلى درجة كبيرة، وغير مقنع، فإن الرئيس لا يجد وسيلة سوى تأجيجه بلغة الأهداف ومباريات كرة القدم، وما أقواها. وبالطبع يعيد ذلك إلى الأذهان، موجة العداء الإعلامي والكراهية الشعبية التي قادها جمال مبارك بنفسه، تجاه الجزائر، على خطوط كرة القدم، خلال الأعوام الأخيرة لحكم مبارك.

هكذا، فإن خليطاً من منطق رأسمالي، مع نزع جانب الشفافية منه، وتضاف إليه شوفينية بعداوات ذات نكهة كروية، كفيلة بنفي أي حاجة لأسئلة أخلاقية أو سياسية. وفيما تتمرغ المعارضة في يأسها، فإن ما تعنيه صفقة الغاز في الحقيقة لا يصبح مجالاً للنقاش. القطاع الخاص، الذي عرفنا بعد الثورة أنه كان ولا يزال واجهة لرجال الدولة، لعقد الصفقات بالنيابة، وكذا شكل العلاقات التي يتم ترتيبها في حوض المتوسط، والغاز في قلبها، هذا القطاع الخاص ليس موضوعاً يسمح للجمهور بالاطلاع عليه. وعلى الجميع الاحتفال بالهدف الذي أحرزه السيسي في شباك أردوغان.