ماكرون أو داعش

عمر قدور
الثلاثاء   2018/12/11

يصعب اليوم التكهن بالمسار الذي ستتخذه حركة "السترات الصفراء" في فرنسا، فكما شهدنا سرعان ما تسرّب إلى الحركة مخرِّبون أساؤوا إلى صورتها، وأدى حضورهم إلى تراجع في عدد المواظبين على الاحتجاج. في المقابل انضم إلى الحركة طلاب الجامعات وطلاب ما قبل الجامعة، وبعض النقابات قد يكون في طريقه إلى الانضمام إثر انضمام نقابات للمزارعين وسائقي الشاحنات، بخاصة مع السقف المنخفض المتوقع تقديمه من ماكرون لحركة الاحتجاج.

خلال نحو شهر يمكن القول بأن الاحتجاجات خسرت من رصيدها، فعلاوة على أعمال الشغب والتخريب تتعزز فكرة فوضويتها وعدم وجود ناظم واضح لها، مثلما تبدو مطالبها لاواقعية لكثرتها وارتفاع سقفها. من جهة أخرى أصبحت عرضة للاتهام بالانتماء إلى اليمين الشعبوي جراء أصوات من ضمنها ارتفعت ضد المهاجرين، وأيضاً بسبب أصوات ارتفعت ضد الاتحاد الأوروبي. فضلاً عما سبق سيأتي وصم الحركة بالريفية ليبخسها قيمتها، ففي فرنسا أسوة بالعديد من بلدان العالم لكلمة "الريفي" ذلك الإرث الدلالي المنافي للمدنية.

ثمة تهويل في الانتقادات الموجّهة للسترات الصفراء يجعلنا كأننا أمام خيار من نوع: إما ماكرون أو داعش، حيث يحتل اليمين المتطرف مكان داعش دلالياً. كلمة الوحش استُخدمت مراراً في وصف الاحتجاجات، سؤال "من هم؟" يتردد كثيراً جداً بأسلوب يغطي على سؤال "ماذا يريدون؟"، الحديث عن أعمال التخريب المرفوضة من حيث المبدأ لا يسهب في تقصي أسباب العنف رغم التخوف من انفلاته. في الواقع هناك علامات عديدة على التراجع الفكري المرافق للحركة، حتى من قبل كثر يقرّون بأحقيتها، بينما يُغطّى عليه باتهامها بعدم وعيها لما تريد وبعدم إدراكها الممكن ضمن مطالبها. ذلك كله يساهم في التخويف من التغيير، والدعوى الجاهزة للعقل الكسول "كما خبرناها خلال العقد الأخير" هي: ما البديل؟

في أمثلة على عدم طرح الأسئلة الحقيقية؛ يبدو المزارعون كأنهم أعداء للاتحاد الأوروبي "مثلما هم أعداء لباريس" بحكم منبتهم ليس إلا. الواقع أن هؤلاء متضررون من المنافسة الشديدة جداً من بلدان مثل إسبانيا أو إيطاليا، ارتفاع التكاليف والضرائب في فرنسا يضعف قدرتهم التنافسية حتى قبل الضريبة الأخيرة على أسعار الوقود. ومن المؤكد أن التراجع في أحوال الطبقة الوسطى والفقيرة يساهم في كساد منتجاتهم، إذ سيدفع بشريحة أكبر إلى البحث عن الأرخص. المزارعون لا يستطيعون نقل أراضيهم إلى الصين، أو إلى أي مكان آخر تتوفر فيه العمالة الرخيصة، على منوال ما فعل ويفعل الرأسمال الصناعي، وأن يعتبر قسم منهم المشكلة في قوانين الاتحاد الأوروبي أمر متوقع، ولا ينبغي أن يؤخذ كنزعة يمينية محافظة بالفطرة في غياب إجراءات حكومية تعزز من قدرتهم التنافسية أو تجعل حسابات التكاليف الخاصة بهم مكافئة لنظرائها في إسبانيا وإيطاليا.

لدى ذكر كلمة "الماموث" سيتبادر إلى أذهان الكثير من الفرنسيين النظام التعليمي، الكلمة التي تشير أصلاً إلى نوع ضخم جداً من الفيلة انقرض قبل نحو مليون عام تُستخدم على نطاق واسع وسلبي للإشارة إلى نظام يحمل كل سلبيات ذلك الكائن. لعل هذا يجعلنا أقرب إلى فهم انضمام طلاب الليسيه والجامعة إلى السترات الصفراء، فالأمر لا يتعلق بميل شريحة عمرية إلى التمرد. طلاب الليسيه غاضبون مثلاً من تغيير تقليد يقضي بأن يُمتحنوا في البكالوريا أمام أساتذة غير الذين يدرّسونهم ليُمتحنوا أمام أساتذتهم، وهذا التغيير قد يقلل من منسوب العدالة لصالح أنواع المحاباة أو الظلم التي تنشأ في المدارس بين الكادر التدريسي والطلاب.

أما طلاب الجامعات فلهم أسباب عديدة، بخاصة مع ارتفاع معدّل البطالة وانخفاض الطلب على مؤهلاتهم لصالح خريجي المدارس العليا، والأخيرة ذات كلفة وشروط تكفي لإعاقة الفقراء عن دخولها. وربما كانت الكلية الوحيدة التي تضمن أفضل الفرص خارج تلك المدارس هي كلية الطب، في بلد يعاني من نقص الكادر الطبي، وبسبب كثرة المتقدمين يخضع الطلاب لنظام اصطفاء قاس جداً في السنة الأولى، بحيث لا يُسمح سوى لعدد محدود بالاستمرار بسبب قلة المقاعد المخصصة بينما تكون الأغلبية قد أضاعت سنة دراسية شاقة لا لنقص في الكفاءة بالضرورة. في هذا المثال أيضاً يجد الأثرياء منفذاً سهلاً، فهناك جامعة تدرّس منهاج الطب الفرنسي نفسه في رومانيا وشهادتها تحظى بالاعتراف، وهي متاحة للقادرين على دفع عشرين ألف يورو كرسوم سنوية. لقد كان لافتاً للنظر في الانتخابات الأخيرة تزايد شعبية اليمين في أوساط الطلبة "اليسارية تقليدياً" على خلفية اتهام المهاجرين بالتسبب في قلة فرص العمل، وذلك بدوره من دلالات أزمة الواقع وأزمة التفكير فيه.

وعندما يطالب المحتجون بإعادة الضريبة على الثروة، التي ألغاها ماكرون، فالأمر يتسع لتفكير أنضج من المسارعة بأخذ المطلب على محمل نقمة الفقراء المعتادة على الأغنياء. الرئيس، الذي يصفه البعض برئيس الأثرياء بينما يصفه البعض الآخر برئيس الأثرياء جداً، لا يظهر بإلغاء الضريبة كمن يشجّع على الاستثمار، بل يوحي إلغاؤها كأنه لفائدة المصارف التي يوصف أيضاً بأنه ابنها. المسألة هنا في أن الإعفاءات غير مرتبطة بالاستثمار، وتالياً خلق فرص عمل جديدة، ويستفيد منها أولئك الذين يستثمرون في الأيدي العاملة الرخيصة خارجاً من دون حافز لإعادة أعمالهم إلى الداخل.

هناك الكثير من الأسباب القوية والعميقة التي تقول أن الفرنسيين لا يمارسون ترفاً أو شغفاً بالنزول إلى الشارع، وصول نسبة المتضامنين مع السترات الصفراء إلى عتبة 80% ونزول شعبية ماكرون إلى 20%، بحسب استطلاعات للرأي، يبقى محتفظاً بمعناه حتى إذا تم احتواء حركة الاحتجاجات الحالية. المعنى هو أن "الماكرونية" ليست وصفة مناسبة لمشاكل فرنسا، والأهم من ذلك الإقلاع عن التخويف بالبديل الأسوأ منها، أو مطالبة المحتجين بالانتظام واقتراح الحل، إذ في هذه الحالة ما الفائدة من وجود الأحزاب والنقابات ومجمل الطبقة السياسية؟