التطبيع المفرط

شادي لويس
الثلاثاء   2017/08/08

في كتابه "كل شيء كان للأبد، حتى توقف عن الوجود: الجيل السوفياتي الأخير" (2005)، صك الأنثروبولوجي الروسي، أليكسي يورشاك، مصطلح "التطبيع المفرط"، لوصف آليات البروباغندا السوفياتية الداخلية في سنواتها الأخيرة، وقدرتها على الحد من تصور أي بدائل للوضع القائم. فانهيار النظام السوفياتي، لم يكن أمراً غير متوقع، لكنه، في الوقت نفسه، لم يكن أمراً مُتصوراً على الإطلاق. ففي خضم شبكة كثيفة من عمليات إنتاج وترويج الأكاذيب اليومية، لم يجد المجتمع السوفياتي أمامه سوى التطبيع مع الواقع الزائف الذي تنتجه، والتماهي معه بالكامل.

وبعد عقد من نشر الكتاب، استعار المخرج البريطاني، آدم كيرتز، مصطلح يورشاك، لعنونة فيلمه التسجيلي الطويل "التطبيع المفرط" (2016)، طارحاً ما أطلقت عليه "نيويورك تايمز"، قراءة مضادة للتاريخ. فعبر سرديات متشابكة تبدأ منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، تمر عبر صعود نجم دونالد ترامب كمقامر ورجل أعمال فاشل، وصولاً إلى ظهور "الدولة الإسلامية"، يصل بنا كيرتز إلى أطروحته الأساس بأن الغرب بلغ النقطة نفسها من هيمنة حالة الخداع الذاتي الجماعية التي سبقت انهيار الاتحاد السوفياتي. فعمليات اختلاق الأعداء الوهميين، من القذافي، وصدام حسين، و"إرهاب" المنظمات الفلسطينية، ومحور الشر، وصولاً إلى الحرب على الإرهاب الإسلامي، لم تكتف فقط بتشتيت الانتباه عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية العميقة في الغرب، بل أيضاً بنفي إمكانية أي بدائل للوضع القائم، الموشك على الانهيار، وترسيخه عبر نبوءات ذاتية التحقق، لا فكاك منها.

لكن سردية فيلم كيرتز، التي تسعى لتفنيد أوهام الإمكانات التحريرية لنظام الاقتصاد الحر ومنطق الفردية الليبرالية مع التشكيك في الآمال الطوباوية المعقودة على الثورة الرقمية وتكنولوجيا الميديا الكثيفة، وقلبها رأساً على عقب، لتأطيرها كمنصات لتزييف الواقع، لا تكتمل من دون التورط في طرح الفيلم لسرديات أحادية ومختزلة لا تقل زيفاً عن سابقتها. فالفيلم الذي يطرح القضية الفلسطينية كمحور رئيسي للصراع في الشرق الأوسط، ولسياسات الولايات المتحدة الإقليمية والدولية، سرعان ما يتحول لتقديم حافظ الأسد بوصفه الفاعل الرئيس في مقاومة سياسات هنري كسينجر الإمبريالية في الشرق الأوسط، وتصدي "سوريا الراديكالية" لملء الفراغ الذي خلفه تخلي مصر عن موقعها التقدمي في المنطقة، بعد توقيع أنور السادات لاتفاقية السلام مع إسرائيل منفرداً.

يقودنا كيرتز إلى قراءة ظهور العمليات الانتحارية وصعود "حزب الله"، ولاحقاً الإسلام السني الجهادي، كرد فعل على السياسات الأميركية في المنطقة والإذلال المتعمد لشعوبها. لكن، وإن كانت قراءة كيرتز لا تخلو من وجاهة بالطبع، فإنها لا تكتمل سوى بتصوير حافظ الأسد بوصفه "البطل-المضاد"، والذي تتداعى محاولته لتركيز السلطة داخلياً في يده، وتدخله للتحكم في لبنان، على خلفية طموحاته للحفاظ على حلم الوحدة العربية، وشعور عميق بالمهانة لإخراج الفلسطينيين من عمليات التسوية في المنطقة، وكذلك كرد فعل على محاولات الغرب التآمرية لزعزعة استقرار حكمه.

لكن ارتكاس محاولة كيرتز النقدية للفكاك من سرديات "التطبيع المفرط" الغربية، إلى رواية مختزلة وأحادية الجانب، تستبدل الحرب على الإرهاب بالحرب ضد الإمبريالية، وتضفي هالة من الأخلاقية على سلطوية نظام حافظ الأسد، والفظائع التي ارتكبها في سوريا ولبنان وبحق الفلسطينيين أيضاً، لا تبدو أمراً استثنائياً. فخطاب الممانعة ليس حكراً على حزب "البعث" وغيره من الديكتاتوريات العربية. فنسخ لا تقل ركاكة عنه تهيمن على بعض تيارات اليسار الراديكالي، في الغرب والمنطقة أيضاً. فعداء عميق للإمبريالية، ورأسماليتها الليبرالية، والذي لا شك يجد ما يبرره، ينتهي بالتماهي مع رؤية قطبية للعالم، يدور فيها الصراع بين الخير والشر، حيث يصبح قمع النظام الفنزويلي للتظاهرات الشعبية تحدياً للمؤامرات الغربية ضد قوى التحرر الوطني في أميركا اللاتينية. ويذهب زعيم "حزب الكرامة" البريطاني لإعلان تضامنه مع صدام حسين ضد الغزو الأميركي، كما تعلن جماعة هولندية ماركسية إدانتها للثورة الليبية بوصفها مخططاً غربياً لإسقاط نظام القذافي الراديكالي المقاوم للاستعمار، وهكذا.

قبل أيام، توجه وفد من "اتحاد الشغل التونسي" إلى دمشق، ووقف أعضاؤه لالتقاط الصور مع بشار الأسد وعلى وجوههم ابتسامات عريضة. فبالرغم من الرفض الرسمي لإعادة العلاقات مع النظام السوري، فإن "اتحاد الشغل"، مثله مثل غيره من تيارات العلمانيين واليسار في العواصم العربية، يتمسك برؤية قطبية مختزلة للعالم، وبفهم ضيق للأسس الإيديولوجية للصراع مع الإسلام السياسي من جهة، والإمبريالية الغربية من جهة أخرى، ينتهي بتضامن مع النظام السوري، من منطلق أن عدو عدوي صديقي، والعكس صحيح أيضاً.

لكن هشاشة سردية فيلم كيرتز، وابتسامات وفد "اتحاد الشغل" التونسي في دمشق، لا تنفي منطق "التطبيع المفرط"، بل على العكس تؤكده. ففعالية آليات التزييف الكثيفة لا تنحصر في هيمنتها على الواقعي، في دائرة سيطرتها، بل أيضاً في فرضها لرؤية قطبية للعالم على معارضيها والرافضين لها أيضاً، وحصر إمكانية مقاومة الوضع القائم في نطاق رد الفعل، باتخاذ مواقف حادة إلى جانب "البطل -المضاد" بالرغم من جرائمه، يصبح معها اتخاذ مواقف مركبة من العالم أمراً مستحيلاً. فالخيار دائماً ما ينحصر بين الشر الأكبر والشر الأصغر، وهكذا يبدو العالم على ما هو عليه، كأنه للأبد، إلى أن يصبح تدارك انهياره متأخراً جداً.