أين جماعة "الدم السني واحد"؟

عمر قدور
الثلاثاء   2017/08/29
في فهم التطورات الدولية أو الإقليمية من القضية السورية يجدر الانتباه إلى الموقف الأردني، وآخر ما صدر عن الحكم هناك يوم الجمعة الماضي تصريح وزير الدولة لشؤون الإعلام بقوله: إن علاقتنا مع الأشقاء في سوريا مرشحة لأن تأخذ منحى إيجابياً. وهذا التصريح مختلف بالتأكيد عن تصريحات كانت تبرز بين الحين والآخر منطوية على دعم حقوق السوريين أو نقد سلطة الأسد، وأيضاً عن تصريحات على أعلى مستوى كانت بين الحين والآخر تحذّر من الهلال الشيعي في المنطقة. بل يمكن التذكير بأن القيادة الأردنية كانت سباقة في العديد من المناسبات إلى طرح موضوع "الهلال الشيعي"، من دون إغفال التقاطعات الدولية والإقليمية التي تجعل منها ناطقاً بمحصلة تلك التفاهمات.

قد يكون الأردن ربح، بموجب اتفاق خفض التصعيد في درعا، إبعاد الميليشيات الشيعية عن أراضيه لمسافة 40 كيلومتراً كما أشيع. ويكون بذلك قد نأى مسافة "كافية" عن خطر "الهلال الشيعي" الذي يحذّر منه، مثلما حظيت تركيا بوجود في الشمال السوري يمنع الميليشيات الكردية من وصل أماكن سيطرتها في الشمال السوري، مع التنويه بعدم وجود جذر مذهبي للصراع التركي-الكردي. أي أن الجارين اللذين كانا مصدر إزعاج أو خطر لسلطة الأسد قد حصلا على تطميناتهما الخاصة، وهذا هو الأهم بالنسبة لهما، وهذا ما قد يفسّره لنا مَن يفترض جهل الآخرين بأن مصالح الدول تحكم توجهاتها.

لكن، قبل الوصول إلى هذه الخلاصة السهلة، سيكون مفيداً التذكير بسياق من الاستثمار في القضية السورية. فالأردن احتضن غرفة الموك التابعة للمخابرات الأميركية، وهي التي أشرفت خلال سنوات على "تقنين" وصول المساعدات إلى فصائل الجيش الحر في الجبهة الجنوبية. وتركيا احتضنت أيضاً غرفة الموم التابعة لجهاز المخابرات ذاته، مع عدم استبعاد فرضية استثمارها خطوط الإمداد بشكل مستقل، بما لا يخرج جذرياً عن التوجهات الأميركية. أي أن البلدين انخرطا بشكل متواصل في الصراع العسكري السوري، ولم يغب عنهما الخطاب السياسي المذهبي، سواء بالحديث الأردني عن خطر الهلال الشيعي، أو تصريح أردوغان الشهير بأن حماة هي خط أحمر عطفاً على ما حدث فيها قبل ثلاثة عقود من الثورة الحالية، أو أيضاً من قبيل تشبيه وجود النازحين السوريين بين الأتراك بالمهاجرين والأنصار.

وكي لا توضع المسؤولية على هذين البلدين فقط لا بأس في استعادة تصريحات عربية وخليجية أخرى، تصب في منحى ما يسمى الصراع الشيعي-السني في المنطقة، وبالطبع قبلها استرجاع تصريحات حكومة الملالي ووكلائها حول حماية المراقد الشيعية، ثم حول الانتقام من أحفاد يزيد. لم يمضِ وقت كافٍ بعد لنسيان شعارات مثل "لن تُسبى زينب مرتين"، وشعارات مضادة مثل "الدم السني واحد". وهي شعارات تراجعت مؤخراً بتراجع الصراع الدولي والإقليمي في سوريا، مع أن أحفاد الحسين المزعومين لم يحرزوا انتقامهم الساحق والنهائي من أحفاد يزيد، ومع أن أحفاد يزيد لم يكرروا غلبتهم بسبي زينب للمرة الثانية!

بل يمكننا اليوم، أو قبل اليوم بزمن ليس بالقصير، الاستدلال بحوادث تخرق هذا الاصطفاف المذهبي. فأهم حدث في عهد إدارة أوباما، وهو توقيع الاتفاق النووي مع طهران، كان لوساطة خليجية أيادٍ بيضاء عليه، على رغم أنه الاتفاق الذي منح لطهران حرية أكبر للتحرك في المنطقة لقاء تقييد نشاطاتها النووية. ولا يمكن في هذا السياق إغفال الخلاف ضمن المحور السني المزعوم حول انقلاب السيسي في مصر، وهو خلاف لا يقتصر على الخليج وإنما طال بعض العلاقات الخليجية- التركية، إن لم نقل أنه زعزع تنسيق الحد الأدنى بين مجموع تلك الدول الحاضرة في الصراع السوري أيضاً. أما ما يُشاع اليوم حول قبول قوى إقليمية "عربية وغير عربية" ببقاء بشار، ولو تحت ذريعة تخليصه من الوصاية الإيرانية لصالح الروسية، فهو يوضّح قيمة الدم السوري، الدم الذي أرادت قوى استخدامه كـ"دم سنّيّ"، وباتت الآن مستعدة لنسيانه كلفته كأنه لم يكن دماً بالمطلق. هذا بالتأكيد ينطبق على القوى التي تاجرت بـ"الدم الشيعي" أو سواه.

العبرة في جميع الحالات أن استثمار المسألة الطائفية هو استثمار سلطة قائمة، أو سلطة طامحة، مهما تحدثنا عن انقسامات طائفية موجودة في الواقع الاجتماعي. ولعل اللحظة الحالية من تلاشي موجة الصراع المذهبي، لصالح صراعات أخرى، تصلح لمراجعة الجدل الذي استمر خلال الموجة حول المسألة الطائفية ككل، حيث كنا إزاء أطروحات لا يقدّم قسم كبير منها معرفة بالموضوع الطائفي خارج التسييس المباشر.

قد يكون اليوم أشد الفرحين هم أولئك الذين أنكروا البعد الطائفي للأنظمة إنكاراً تاماً، فأنظمتهم تلك في أحسن حالاتها الآن، والوقائع التي تشير إلى خمود الصراع المذهبي في أوجها. هؤلاء رفضوا دائماً أي تشريح لطائفية السلطة، وهو تشريح لا يبتغي في معظمه تجريم طائفة بل تجريم السلطة ذاتها التي تستثمر في المسألة الطائفية، ولم يكن إنكارهم لخدمة معرفة أبناء أي مذهب بكيفية استغلالهم، أو بالأحرى التضحية بدمائهم طيلة سنوات. لا يقل عن هؤلاء ابتذالاً وسطحية أولئك الذين رأوا في نقد البعد الطائفي للسلطة تجريماً لمذاهب أو طوائف بأكملها، فانزاحت مطالبهم من إسقاط سلطة "يشكل البعد الطائفي أحد أقذر ملامحها" إلى إسقاط طائفة بوصفها هي السلطة. حتى التحليلات الرصينة حول الإحساس الأقلوي كان مصيرها بحسب أولئك التحول إلى أحكام إطلاقية غير قابلة للتبدل في ظروف مغايرة، وبالتالي لا فائدة من الرهان على المسألة الوطنية الآن أو في المستقبل. ولعل من أسوأ ما حصل هو تسويق مأخذ عدم طمأنة الأقليات بالطريقة المبتذلة التي طُرح بها، فهذا المأخذ يضمر تكريس نوع من الذمّيّة السياسية أكثر مما يتوخى إنهاءها أو إنهاء مقلوبها في السلطة الحالية.

على صعيد متصل يدلل الخمود الحالي للصراع المذهبي، وانبعاث صراعات أخرى بدلاً منه، على حجم وطبيعة "المظلومية السنية" التي قد تكون في طور التشكل. فتعبيرات هذه المظلومية سابقاً لم تكن متماسكة، ولن تكون كذلك في أي وقت لتعذّر وجود مرجعية مقبولة على نطاق واسع، ولتعارضها مع الخصوصيات المحلية، ما يرجّح مراوحتها في إطار المزايدات الجهادية الحالية، وهي مزايدات لم تعد بعيدة عن تشبيك المصالح مع سلطات قائمة هنا أو هناك. هذا النوع من العدمية السياسية سيجد لنفسه "سوقاً" في بعض الأوساط الناقمة، لكن أحد أهم مصادر قوته سيأتي من اللعب مع أنظمة تعمل على تكريس العدمية السياسية كبديل عن السياسة الممنوعة في مجتمعاتها.

ربما نخطئ قليلاً بالقول بانقضاء زخم الصراع المذهبي مع عدم انتصار أحد طرفيه، ففي المقابل يظهر قادته من جميع الأطراف في أحسن أحوالهم، ومن دون أن يسائلهم أولياء الضحايا عن الدم الذي أُريق خدمة لصراعهم. الأهم أن تبريد الصراع الآن لا يعني أن يُفرّط أصحابه بإمكانية استعادته عند الحاجة، وهذا ما قد يحدث مع جهوزية عالية تفوق استعداد المجتمعات المعنية للجولة الفائتة. هذه الجهوزية للاستثمار مرشحة للدوام بوجود من ينكرها، وأيضاً بوجود من يروّج لتعذّر الفكاك منها، من دون أن يتساءل الطرفان عما يجعلهما يخدمان المستثمر ذاته.