"إسلاميّونا": لا أمل

عمر قدور
الثلاثاء   2017/08/15
حدثان، ليسا خارج سياق التنظيمات الإسلامية، شهدتهما بالتزامن مدينتا دوما في غوطة دمشق وسرمين التابعة لإدلب. الأكثر فظاعة ووحشية منهما هو قيام مجموعة مسلحة باغتيال سبعة من عناصر الدفاع المدني في سرمين، أو مَن اشتُهروا بأصحاب القبّعات البيض، بينما كانوا نياماً في مركزهم. الحدث الآخر مهاجمة حوالي مئة شخص من الحراك الشعبي التابع لجيش الإسلام مركز توثيق الانتهاكات في سوريا، مقره في دوما، وجيش الإسلام مُتهم رئيسي بخطف أربعة من المركز هم رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي ووائل حمادة في كانون الثاني عام 2013.

قبل حادثة سرمين بنحو أسبوع كان عناصر من جبهة النصرة، المسيطرة على إدلب وسرمين أيضاً، قد هاجموا مركزاً للدفاع المدني في مدينة جسر الشغور، وبُرِّر الحادث حينها بوجود خلاف بين أحد عناصر النصرة وأحد العاملين في المركز! أما جيش الإسلام فمن المعلوم أنه قبل خمسة أشهر أغلق العديد من المؤسسات ذات الطابع المدني، بسبب غضب قيادته آنذاك من مقال نشرته مجلة "طلعنا ع الحرية"، وفي حادث الهجوم الأخير على مركز توثيق الانتهاكات برر أنصاره هجومهم بدعوة المكتب إلى تحرير المرأة وتشجيعها على العمل خارج المنزل!
كنا لنستغرب أن يهاجم أنصار جيش الإسلام "المصنّف معتدلاً" نشطاء الثورة المدنيين، بينما تعقد قيادته هدنة مع النظام بوساطة حليفين له، هما روسيا ومصر السيسي. وكنا لنستغرب اعتداء النصرة، بينما محافظة إدلب بأكملها مهددة بالتدمير والإبادة بسبب سيطرتها، هي الموضوعة على لائحة دولية لمكافحة الإرهاب وفق قرار لمجلس الأمن. لولا أن إبداء الاستغراب يحيل إلى جهل بطبيعة هذين التنظيمين، ومعاداتهما الديموقراطية جهاراً، ولولا أنهما لا ينفردان بذلك العداء عن باقي التنظيمات الإسلامية الناشطة في سوريا، وأيضاً لولا تقنين ذلك العداء بإشراف ما يُعرف باسم "الهيئات الشرعية" التابعة لتلك التنظيمات، والتي يدّعي بعضها العمل بالقاعدة الشرعية "وأمرهم شورى بينهم" بدل الديموقراطية المعاصرة، لينحصر فهم تلك القاعدة بأن الأمر شورى بين قادة التنظيم نفسه ولا علاقة له بآراء بقية السكان، هذا إذا لم تكن الشورى بين القادة تعني تصفية بعضهم البعض.

في مناسبات سابقة، وعندما كانت تُوجه انتقادات من خارج الإسلاميين، كان أنصارهم يردون بأنهم القوة المقاتلة على الأرض، وعلى من ينتقدهم الذهاب إلى القتال مثلهم أو بدلاً منهم. وبصرف النظر عن التطابق بين هذا المنطق ومقولة "لا صوت يعلو على صوت المعركة" التي قُمعت تحتها شعوب المنطقة، يمكن القول بأن الإسلاميين وأنصارهم لم يروا في سواهم يوماً سوى بعض الأفراد الهامشيين الذين لا وزن لهم إطلاقاً، بينما منحوا لأنفسهم حق احتكار تمثيل عموم المسلمين فقط لأنهم كذلك، ولأنهم يعتبرون أي مسلم هو إسلامي بحكم إيمانه، تماماً كما يغطي بعض "العلمانيين" عداءهم للإسلام بعدم التفريق بين من هو مسلم ومن هو إسلامي.

ومن المتوقع اليوم أن يلاقي نقد الإسلاميين المصير السابق، إذ يُقال بأن الأصوات الناقدة ترتفع اليوم عطفاً على هزيمتهم في سوريا، أو تشفيّاً بهم. من دون أن يُكلف الإسلاميون وأنصارهم خواطرهم للتساؤل عما أدى إلى الهزيمة، في معركة قالوا من قبل إنها معركتهم وحدهم، وعطفاً على ذلك ينبغي عليهم الاعتراف بأنها هزيمتهم في الدرجة الأولى. القول بأن الهزيمة أتت بسبب "المؤامرة الدولية على الإسلام" لا محل له في السياسة، فتجربة الإسلاميين الجهاديين مع العالم معروفة، ومن السذاجة الظن بأن العالم سيقف متفرجاً وهم يُحكمون سيطرتهم على أي بلد، ومن السذاجة والسخف معاً انتظار الدعم الذي تُمسك به عواصم صنع القرار الغربي، بينما يكفّر قادة الجهاد تلك الدول.

أما القول الدارج بأن سلوك الغرب إزاء القضية السورية سيتكفل بتنشئة المزيد المتطرفين فهو بلا شك يشكل عزاء لهزيمة أمراء الجهاد، ويجعل منها استثماراً آجلاً رابحاً. لكن هذا الاستثمار بطبيعته لا يأخذ في الحسبان حجم الضحايا الأبرياء الذين سيكونون وقود المعركة القادمة، لأن المستثمرين لم يحترموا من قبل حيوات الضحايا في الجولة الحالية والجولات التي سبقت. هذا إذا أخذنا المقولة ذاتها على محمل الحتمية، ولم نترك هامشاً لاحتمال تعلم الشعوب من الدرس القاسي الأخير.

إلا أن أهم ما يكشف عنه الدرس السوري هو فقدان الأمل من هذا النوع من الإسلاميين، أي أولئك الذين فهموا طموح الآخرين إلى التغيير على أنه استبدال للطغيان الحالي بآخر ديني. هذه الانتهازية في محاولة استغلال فرصة تاريخية كانت ممنهجة طوال الوقت، فالإسلاميون عملوا على مستويين، الأول الهيمنة وانتزاع ما كسبته الثورة، والثاني قتال تنظيم الأسد بوصفهم قوة الأمر الواقع الوحيدة المواجهة. فضلاً عن أن هذه هي اللعبة المفضّلة لتنظيم الأسد، واستهدافه أولاً الفصائل الأكثر اعتدالاً، فإن انتهازية الإسلاميين المبتذلة لم تسعفهم في محاولة التقرّب من الثورة، عبر أساليب سطحية مثل رفع علمها، سوى في الوقت الضائع بعد خسارتهم خارجياً وداخلياً. في الإطار نفسه تصب مشاركة الإسلاميين في تنظيمات المعارضة السياسية، فوجودهم أعاق تبلور نهج وطني واضح وجامع، وتسببت محاولات هيمنتهم الصريحة والخفية بإفشال عمل تلك التنظيمات أو مأسستها.

وإذ لا يعاني هؤلاء أي مأزق فكري يدفعهم إلى المراجعة، ما دامت الهزيمة تغذّي المظلومية، وتتولى الأخيرة رفدهم بأجيال جديدة، فإن المأزق هو في تعاطي ديموقراطيين مع هذه الحالة. المنطلق الديموقراطي ليس إقصائياً بطبيعته، وسيقع في معضلة التعاطي أو المشاركة مع من هم إقصائيون حتى مع إسلاميين آخرين. هذا كان مأزق ديموقراطيين سوريين، تحمس بعضهم لمشاركة الإسلاميين على أساس وجود معركة مشتركة، بينما كانت المعركة المشتركة الفعلية في الكثير من الأحيان بين التنظيمات الإسلامية وتنظيم الأسد، على خلفية الاشتراك في احتقار الديموقراطية والعداء الصريح لها. بل لقد دافع العديد من نشطاء الثورة العلمانيين، ومن مختلف المنابت الدينية أو الطائفية، عن وجود الإسلاميين "المعتدلين" بوصفهم يمثّلون الإسلام الشعبي المعتدل لدى العديد من دوائر صنع القرار الغربية المتخوفة من المد الإسلامي. في المقابل كان هناك علمانيون يحرّضون خارجياً على الثورة بوصفها إسلامية، مثلما كان هناك بين أنصار الإسلاميين من يحرض مثلاً على ناشطة ومعتقلة سابقة هي سميرة الخليل، لأنها علوية المنبت وموجودة في الغوطة، متهماً إياها بالعمالة للنظام!

اليوم، وبعد تأخر دامٍ، تصل مغامرة الإسلاميين إلى نهايتها، سواء أولئك الذين قبلوا بتسويات وهدن مع حلفاء الأسد أو أولئك الذين سيتسببون بهلاك ودمار إضافي قبل هزيمتهم. قد تضع هذه النتيجة نهاية ذلك الالتباس بين أهداف الثورة وقوى الأمر الواقع المسيطرة على الأرض، بما أن قوى معارضة أساسية لم تتجرأ على التفريق بينهما، وغلبت عليها أيضاً الانتهازية التي تتوخى الاستفادة من الإسلاميين. القول بأن هذا إيجابي في المحصلة يتوقف على إعادة إنتاج القضية السورية من قبل ديموقراطيين وطنيين، ومن قبل مؤسسات واضحة المنهج والأهداف، وقادرة على التمييز بين ضرورة مشاركة واستيعاب مسلمين ديموقراطيين وبين أولئك الإسلاميين الجهاديين.