المقاومة والعنف:قلق ما بعد الثورة

شادي لويس
الثلاثاء   2017/07/25
مع توتر الأوضاع في القدس، وعلى خلفية عملية إطلاق النار في محيط المسجد الأقصى وعملية مستوطنة "حلميش" اللاحقة، تجدد جدل مصري حول المقاومة وأخلاقياتها، والقضية الفلسطينية إجمالاً، وإن كانت هذه ليست المرة الأولى. ففي الأعوام القليلة الماضية، ومنذ بدء عمليات الطعن في الأراضي المحتلة العام 2014، لطالما طرحت أخلاقية عمليات المقاومة وجداوها للنقاش، إلا أن اللافت للأنظار هذة المرة هو توسع الجدل وحدته، الذي تطور إلى حد التشهير عبر شبكات التواصل، بأشخاص بعينهم، بسبب مواقفهم من الأمر، ووصل أحياناً إلى تحريض على استخدام العنف البدني ضدهم.

ما يعنينا هنا ليس الجدل الدائر بين مؤيدي النظام المصري ومعارضيه. فالفريق الأول الذي يركن قطاع واسع منه الى بنية قيمية مولعة بالقوة وتمجيد بطشها بالعموم، ولا يخفي منتسبوه هوسهم بتمظهراتها وممثليها من بوتين وترامب وصولاً إلى إسرائيل والأسد، تعتنق غالبيتهم أيضاً نظرية المؤامرة، فتدعي تورط "حماس" في الثورة المصرية وفتح السجون في أيامها الأولى، وبالتالي لا يخفون تعميماً للخصومة مع الفلسطينيين، وعداءً لهم. وبما أن النظر في تفاصيل جدل من هذا النوع، لن نخرج منه بجديد لا نعرفه عن دوافع أصحابه ومنطقهم، فإن الأمر الذي يبدو أحق بالفحص هو الجدل الدائر بين معارضي النظام المصري في ما بينهم، وبالأخص بين المحسوبين على معسكر الثورة من العلمانيين.

هل استخدام العنف في المقاومة ضروري، أو مفيد؟ هل طعن المدنيين هو أمر أخلاقي؟ وإن كانت الإجابة بنعم، فكيف لنا أن نتغاضى عن الضحايا من الأطفال والمسنين؟ ألا تستوجب المقاومة ناموساً أخلاقيا؟ أليس التذرع بتجاوزات الإحتلال كمبرر للانسياق للعنف غير المقيد، اعترافاً بنجاح الإحتلال في تحويل مقاوميه إلى وحوش على شاكلته، وتفريغ القضية من عدالتها وجوهرها الإنساني؟ هل المستوطنون مدنيون؟ بل وهل للفلسطينيين قضية عادلة بالأساس؟

ينقسم الجدل على محاور تلك الأسئلة، كما تنقسم معسكراته أيضاً بحسب مرجعياتها. فمعسكر حقوقي، لا يعمل منتسبوه بالضرورة في المجال الحقوقي وإن كانوا متأثرين بخطاب مؤسساته، ينطلق من مرجعية ونصوص إتفاقية "جنيف" وغيرها، كمعيار لإدانة عمليات المقاومة الموجهة ضد مدنيين بوصفها خرقاً للقانون الدولي، وتعدياً على جهود تاريخية مضنية وتراكمات لسعي البشرية للجم أهوال الصراعات المسلحة وفظائعها. وعلى مقربة من ذلك المعسكر، يؤسس معسكر آخر شجبه لعمليات المقاومة على حرمة الحياة الإنسانية في عمومها، في رفض مبدئي ومطلق للعنف بغض النظر عن مبرراته أو أهدافه، حاصرين خيارهم في المقاومة السلمية دائماً. أما المنطلقون من أرضية براغماتية، فمع اتفاقهم على رفض القانونية والمثالية الإنسانية، كمعيار للحكم الأخلاقي، فإن خلافهم في ما بينهم على نجاعة العنف ينتهي بهم إلى موقفين متعارضين. ففيما يرى البعض أن إتخاذ العنف القاتل كوسيلة للمقاومة، مبرر ومقبول، كرادع لعنف الإحتلال وكسلاح ضد تأبيد الوضع القائم وفظائعة الممتدة لعقود، فإن البعض الآخر لا يرى في عنف المقاومة ضد المدنيين تحديداً، سوى مبرر يتحيّنه الإحتلال لتشوية قضية الفلسطينيين العادلة أمام المجتمع الدولي، وكذا التمادي في جرائمه، وتأطيرها كرد فعل تحتمه الضرورة.

وعلى أقصى يسار الجدل، يركن معسكر راديكالي، لا يقل في مثاليته أحياناً كثيرة عن مقابله الإنساني، بمنطِق يرى في العنف حتمية أولية، قادرة وحدها على تغيير مسار التاريخ، وضرورة لحسم حركته التي لا يمكن النظر إليها سوى كصراع سواء بين طبقات المجتمع الواحد، أو بين الاستعمار وضحاياه. وخلافاً لتلك الانقسامات حول أخلاقية العنف أو ضرورته، يرتفع صوت معسكر "تنويري"، تخطى منتسبوه إعلانهم عن الإعجاب بما يطلقون عليه علمانية إسرائيل وتفوقها العلمي والتكنولوجي، وعن إحتقارهم للمقاومة بوصفها تعبيراً عن رجعية قيم العروبة البالية، وظلامية الإسلام الجهادي، إلى التشكيك مؤخراً في عدالة قضية الفلسطينيين، بالإتكاء على سردية "صهيونية" خالصة، ترى في الفلسطينيين دخلاء على أرض الشعب اليهودي التاريخية.

ما يعنينا هنا في شأن هذا الجدل، ليس إطلاق حكم أخلاقي على المقاومة الفلسطينية أو قضيتها، ولا ترجيح منطلقات أحد معسكرات الجدل حولها في مصر، بل النظر إلى ذلك النقاش المحتدم في سياقه، بوصفه حدثاً "ما بعد ثوري"، أي أنه نقاش، لم يكن له أن يحدث في صورته الحالية سوى بفضل الثورة المصرية ومحفزاتها. وكذلك فإنه "ما بعد ثوري" لأن سياقه يأتي أيضاً مع تجاوز الثورة، عبر هزيمتها أو على الأقل إنكسار موجتها. فالنقاش حول فلسطين الذي لم يتعدّ في الماضي الخطاب القومي الناصري، أو البروباغندا الساداتية المعادية للفلسطينيين، ومعهما تأطيرات الإسلام السياسي للقضية بوصفها صراعاً دينياً، وجدت له اليوم أطر ومرجعيات أخلاقية وسياسية، لم يكن لها أن تجد مساحة في المجال العام، سوى بفضل تكنولوجيات التواصل الكثيف ونجاح مؤسسات المجتمع المدني في ترويج خطابها الحقوقي. وهما أمران، كما كانا من محفزات الثورة، فإن الفضل يعود لها في شحذ أدواتهما وتوسيع مجالهما.

لا يتوقف الأمر هنا. فسؤال العنف، والقلق الدائم من إجابته، يبدو مرتبطاً بالثورة نفسها وبتجاوزها أيضاً. فبين مَن يرى في شعارات "السلمية" التي انطلقت أثناء الثورة خطأ فادحاً، كبّل قدرتها على تحطيم القديم وتتميم أهدافها، وبين من لا يزال مصرّاً على سلميتها العفوية، وعلى أن العنف اللاحق خرب قدرتها على الإستمرار واكتساب الدعم الجماهيري، فإن معضلة العنف تظل مقلقة اليوم في مواجهة الهجمات المتتالية على قوات الشرطة والجيش، فيما يجد الجميع من معارضي النظام أن عليهم إعلان موقف حاسم منها، يظل ملتبساً ومتردداً في كل مرة، بين الشماتة في النظام أو لوم قمعيته، وبين إدانة خجولة لعنف الجماعات الجهادية. وينسحب ذلك التردد على وسائل المقاومة بشأن قضايا أخرى. فالهجوم على النضال القانوني ضد تسليم جزيرتي تيران وصنافير، بوصفه مساراً حقوقياً هشاً، لا يعول عليه، لم يقلّ حدّة عن تبخيس الخروج للتظاهر ضد تسليمهما، ولفظه كوسيلة تفتقد للواقعية.

ما نشهده اليوم من جدل مصري حول فلسطين، لا يبدو مرتبطاً بقضيتها، بقدر ارتباطه بسياق "ما بعد ثوري"، تؤرقه أسئلة العنف، ووسائل المقاومة، وأخلاقيتها، وجدواها في علاقتها بالشأن المصري الداخلي، وفي مواجهة كل من النظام وخصومه من الجهاديين، تحت ثقل تركة الثورة ومراجعاتها المضنية. جدل، كما بدأ من سؤال العنف، يقودنا إليه أيضاً. فالعنف المعنوي الذي أطلقته الثورة وانطلقت بسببه، في هدم القديم وقيمه، ونزع القداسة عن تابوهاته، ربما يلام اليوم على فتح الباب أمام خطاب صهيوني ممسوخ يشكك في عدالة قضية الفلسطينيين نكاية في العروبة والإسلام، لا أكثر، وهو أمر يدفعنا للعودة إلى التساؤل عن كوابح العنف ونطاقاته، وفي صورته المعنوية هذه المرة.