في انتظار جماهير لا تأتي

شادي لويس
الثلاثاء   2017/06/20
عوّل كثيرون على أن تدفع موافقة مجلس النواب المصري على اتفاقية تيران وصنافير، في اتجاه انتفاضة شعبية ضد النظام الحاكم، أو على الأقل أن تطلق شرارة حركة احتجاجية تتسع مع الوقت. لكن دعوات الاحتجاج والنزول إلى الشوارع، يوم الجمعة الماضي، وعلى خلفية حملة استباقية من الأمن، انتهت بعدد محدود من المتظاهرين، سرعان ما تولت قوات الأمن تفريقهم. ومع أن فشل تلك الدعوات الاحتجاجية في تحقيق طموحاتها لم يكن الأول من نوعه، بعد سلسلة طويلة من الدعوات خلال العامين الماضيين، والتي انتهت بالقليل أو الكثير من الاستجابة لكن من دون تأثير حقيقي، إلا أن الاحباط الأخير ربما يحمل وزناً أكبر مما سبق. فتحطم الآمال المعقودة على "انتفاضات الخبز" و"ثورات الجياع"، في ظل معدلات غير مسبوقة من التضخم، وتخبط فادح في إدارة النظام للأزمة الاقتصادية، كان قد تم تجاوزه عبر الإقرار بأن العامل الاقتصادي ليس بالضرورة هو ما يحرك الجماهير، وبأن الثورة المصرية، كغيرها من الانتفاضات العربية، كانت متعلقة بالكرامة أكثر من أي شيء آخر.

أعادت قضية الجزيرتين وتقاطعاتها مع مسائل الكرامة والاستقلال الوطنيين، الآمال في أن تفجّر الأرض وقدسيتها ما فشل الجوع في تحقيقه. فإن كان الغلاء يمكن تحمله ببعض التدبير والصبر والكثير من الخوف والترهيب، فإن تخلى النظام باستهانة، عن مبرر وجوده الوحيد وحجته الأكثر تكراراً، اي حماية الدولة وحدودها والذود عن الاستقلال الوطني من مؤامرات الخارج، كان الضربة الأخيرة، في نظر البعض، والتي ستهب الجماهير على إثرها حتماً.

بلا شك تركن طموحات "انتفاضات الأرض" و"ثورات الكرامة" إلى منطق يختلف كثيراً عن "ثورات الجياع والخبز". لكن المنطقَين ينطلقان من فهم مشترك لحركة الجماهير ودوافعها. فالعفوية، أي هبة الجماهير من دون تنظيم أو عمل مؤسسي مسبق، لم تكن أمراً واقعاً ميّز ثورة يناير وينبغي القبول به على مضض، بل على العكس، أضحت جوهر فهمها ومعجزتها وساحة للصراع على أصالتها. ففيما بذل النظام مجهوداً استثنائياً في تشويه الثورة بوصفها مخططاً مسبقاً، بهدف إلصاق تهمة المؤامرة الخارجية بها، فإن أنصار الثورة بدورهم انخرطوا في دفاع مستميت لإثبات عفويتها، لا لرد تهمة المؤامرة فحسب، بل للتدليل على أصالتها مرة وعلى استثنائيتها مرات. لكن يبدو الاحتفاء بالعفوية حكراً على يناير، فبالإضافة إلى مظاهرات أحكام قيادات الطيران في نهاية الستينات وانتفاضة الخبز في عهد السادات، فإن الإيمان بانتفاض الجماهير كلحظة استثنائية وعفوية لاستعادة التاريخ لمساره أو الخروج عنه، كان وما زال المنطق الأكثر هيمنة على الفلسفة السياسية عالمياً.

فإن كان كارل ماركس يرى في الثورات قاطرة التاريخ، ولحظة استنارة لوعي الطبقات المقموعة تفرضها حتمية تاريخية ترتكز على عوامل مادية وطبقية متشابكة، يرى فالتر بنيامين الثورة ككابح لحركة التاريخ، وومضة وسط تراكمات خرائبه، والإثنان يستلهمهان منطقاً مسيحانياً بشكل أو بآخر. فبين التفسير العقلاني الماركسي للتاريخ، ولاهوتية بنيامين وباطنيته، تكمن سحرية الثورات، لا كفعل إرادة الجماهير بالضرورة، بل بوصفها حركة خفية لروح العالم ويد التاريخ المتعالية. هكذا، في عفوية حركة الحشود، تكمن أصالة الثورات، كتحقق لنبوءة مسبقة، غير محددة الموعد، واستعلام لـ"ملء الزمان" الإنجيلي، واكتمال علاماته الكبرى.

لا تخرج المراهنة على الاستجابة التلقائية للجماهير لدعوات الانتفاض، على وقع الجوع والتفريط في الأرض، عن محددات ذلك الفهم النبوئي للتاريخ، ولا تمثل انتكاساته لأصحابه سوى تمديد للانتظار مرة بعد مرة، واختبار لفضيلتي الصبر والرجاء. فلذلك الوعي الباطني للجماهير أن ينفجر في لحظة الاختمار، محفّزاً الأحداث نحو مصائرها وأقدارها. لكن محاولة التصدي لذلك المنطق، لا يجب تأطيرها في دعوة للعقلانية بالضرورة، ولا كمحض تحفيز على الإنتظام المؤسسي لمعارضة النظام. فالمراجعات المحدودة لهزيمة يناير، أفضت إلى نبذ عفويتها بالفعل، وإلى اعتبارها إحدى نقاط ضعفها وأكثر أركانها هشاشة. وتتردد بلا كلل دعوات الانتظام السياسي، على وقع محاولات حثيثة لعقلنة الحراك الجماهيري وتفهم مبرراته المنطقية. لكن تلك المحاولات تبقى امتداداً للمنطق النبوئي للتاريخ. فالجماهير في حاجة إلى قيادة وانتظام مؤسسي حتى تصبح مؤهلة للقيام بأدوارها في اللحظة الحاسمة، وتحقيق خلاصها المحتوم. لكن ما يبدو ضروريا اليوم، وما زال مفتقداً، هو محاولة تحرير أنفسنا والجماهير من أدوار لم تخترها ولم تسع إليها، وليست حتمية بالضرورة، لا عفوياً ولا انتظاماً، وكذا الإقرار بأن السؤال الواجب هو: إن كانت الجماهير لا تأتي، فما العمل؟