روسيا والرقص على الإيقاع الأميركي

بسام مقداد
الخميس   2017/04/13

لم يكن على المرء بذل كبير جهد لمعاينة التشوش ، الذي اتسم به سلوك السلطة الروسية في التعامل مع الزيارة الأولى لوزير الخارجية الأميركي ركس تيلرسون إلى موسكو . ويعود هذا التشوش إلى الهدفين شبه المتناقضين، اللذين سعى الكرملين لتحقيقهما من خلال هذه الزيارة . فهو، من جهة لا يستطيع الخضوع لمنطق الوعيد والإنذارات، الذي أتى به تيلرسون إلى موسكو، والتخلي بهذه السهولة عن مكتسبات"عظمة روسيا"، التي تحققت في سوريا ، ومن جهة أخرى يسعى للمحافظة على العلاقة مع "شبابنا في واشنطن" ، كما يوصف دونالد ترامب وركس تيلرسون في كواليس موسكو السياسية ، على قول احد المواقع الإخبارية الروسية في اليوم الأول للزيارة .

إلا أنه لا ينبغي الذهاب بعيداً في تفسير وجود هدفين للسلطة الروسية من وراء الزيارة ، والقول بوجود فريقين في هذه السلطة. في الكرملين سلطة واحدة فقط ، يقف على رأسها القيصر فلاديمير بوتين ، ويمسك بقبضة حديدية بزمامها ، مستنداً إلى دعم الأجهزة الأمنية ، التي استخدمها بكثافة وفعالية رفيعة خلال الإحتجاجات الأخيرة في 26 آذار/مارس الماضي . فقد حرص الكرملين ، خلال اللقاء الأول مع ممثل الإدارة الأميركية الجديدة ، على القول لهذه الإدارة بأنه يواجه صعوبة فائقة في استقبال وزير خارجيتها في ظل جو العداء الجارف لأميركا ، الذي يسود الشارع الروسي بعد الضربة لسوريا . كما تعمد أن يقول لها ايضاً ، من خلال الإصرار على إتمام الزيارة وعدم إلغائها، بأنه لن يفرط بالعلاقات ، التي تربطه بالرئيس الأميركي الجديد ووزير خارجيته ، الحائز على وسام الصداقة ، الذي منحه إياه بوتين نفسه وعلقه على صدره في العام 2015 .

في اليوم السابق للزيارة نشرت وكالة نوفوستي الرسمية مقالة تذكرت فيها رئيس الوزراء الراحل يفغيني بريماكوف في العام 1999، وكيف قفل عائدأ من فوق المحيط الأطلسي ، حين أُبلغ ، وهو في طريقة لزيارة واشنطن ، بالقصف الأميركي ليوغوسلافيا . وقالت نوفوستي ، أن بريماكوف لو كان على قيد الحياة لكان ألغى الزيارة ، واتصل هاتفياً بوزير الخارجية قائلاً له "عذراً، سيد تيلرسون، ليس لدينا أية اعتراضات عليك شخصياً ، وموسكو تنتظرك ، لكن ليس الآن" .

وفي السياق عينه ، صدرت عن الكرملين وبقية مؤسسات السلطة في موسكو إشارات بالغة الدلالة تصب في الإتجاهين المذكورين في آن معاً. في اليوم الثاني للزيارة وجد مجلس الدوما الوقت مناسبا لإقرار أولي لمشروع قانون أجل بموجبه الإنتخابات الرئاسية لمدة أسبوع واحد ، من 11 آذار/مارس 2018 إلى 18 من الشهر عينه، وهو اليوم ، الذي ضمت روسيا فيه شبه جزيرة القرم العام 2014. لكن في الوقت عينه، وفي الإتجاه المعاكس، وجدت كتلة حزب السلطة "روسيا الموحدة" في مجلس الدوما الوقت مناسباً أيضاً ، لكي تسحب من المجلس مشروع قانون ، يجيز للقوى الأمنية إطلاق النار على المشاركين في مظاهرات غير مرخصة من السلطات . وبقي الناطق باسم الكرملين طيلة اليوم الثاني للزيارة يماطل في الإفصاح عن إمكانية اللقاء بين تيلرسون والرئيس بوتين . وكان يكتفي بالقول ، أن ثمة احتمال لمثل هذا اللقاء ، لكنه احتمال غير مؤكد "لأن مثل هذه اللقاءات لا يتم الإفصاح عنها عادة " ، وإذا ما تم فسوف يلتقي الرئيس مع وزيري الخارجية تيلرسون ولافروف معاً "ليقدما له تقريراً عن المحادثات، التي جرت بينهما". لكن بوتين ، وكان الأمر أكثر من مؤكد ، التقى مساءاً ركس تيلرسون بمفرده ، وبالتأكيد ليس من اجل أن يقدم لبوتين تقريراً عن محادثاته مع لافروف ، كما أُعلن لاحقاً .

إضافة إلى ذلك ، بدا الضيق والتشوش واضحين في سلوك المسؤولين الروس خلال الزيارة . وقد برز ذلك في ما بدر من سيرغي لافروف تجاه الصحافيين الأميركيين المرافقين للوزير الأميركي في زيارته لموسكو . فقد تجمهر هؤلاء على باب قاعة المحادثات بين الوزيرين ، وما أن أطل الأخيران حتى بادر الأميركيون إلى "رشق" لافروف بالأسئلة : "هل صحيح أنكم تدعمون الحكومة السورية ؟ وكيف تعلقون على تصريحات البيت الأبيض بالأمس؟" ، فانفجر بهم لافروف صارخاً : "أنتم من علمكم الأدب ، من تولى تربيتكم ؟" ، حسب وكالة نوفوستي، ولم يجب على الأسئلة ، بل اقترح على زميله الأميركي التحدث إلى الصحافيين .

كما برز ذلك واضحاً أيضاً في سلوك السفير الروسي في الأمم المتحدة تجاه المندوب البريطاني ، الذي قال بأن روسيا تسئ استخدام حقها بالفيتو، فرد عليه الأول "أنت لماذا تشيح بنظرك عني حين تتحدث ، أنظر في عيني". وقال أحد المواقع الروسية المعارضة عن الحادث ، انه بعد أن نشر الأميركيون التقرير السري عن هجوم الأسد الكيميائي في إدلب "لم  يجد الكرملين ما يرد به سوى السباب والشتائم فقط" . وقال الموقع ، أن لافروف وتيلرسون اتفقا على تشكيل مجموعة عمل مشتركة لتسوية العلاقات بين البلدين . ويتساءل الموقع عن أية علاقات يجري الحديث ، عن أية تقاطعات ، فهل تنوي روسيا التوقف عن دعم الأسد ، ام أنها ستنسحب من التحالف مع إيران وحزب الله ، أو أنها تزمع إعادة القرم إلى أوكرانيا ؟ الإجابة عن كل هذه الأسئلة واحد بالتأكيد، وهو لا. فما اعتادت روسيا، حسب الموقع ، أن تعترف بهزيمتها سوى في اللحظة الأخيرة، وبعد وقوع الواقعة. وكان سبق لموقع روسي معارض آخر أن كتب ، أن 59 صاروخاً مجنحاً أُطلقت على سوريا بأمر من الرئيس الأميركي ترامب ، كانت كفيلة بتوجيه ضربة لسياسة بوتين الخارجية ، قد تكون هي الأقسى خلال كل فترة حكمه . ودعا الموقع الكرملين للكف عن الرقص حول ترامب وعلى إيقاعه ، فهو لا ينوي وقف العقوبات على روسيا ، بل هو يعد بالمزيد منها "إذا بقي الأمر على حاله في سوريا" .

ومن جانب آخر، تساءل موقع "gazeta.ru" بمناسبة الزيارة ما إذا كان بوسع روسيا أن تعقد صفقة مع ترامب ، بوصفه رجل أعمال . وقال " هل يمكننا، مثلاً ، أن نسلم الأسد ويضمن الأميركيون نشؤ سلطة في سوريا لا تلغي قواعدنا العسكرية، أو أن تنشط الولايات المتحدة في الإنخراط في حل النزاع في أوكرانيا وتضغط على كييف لكي تعترف بالقرم روسياً". ويقول هذا الموقع ، بأنه لم يعد لدى روسيا في سوريا الشيئ الكثير الذي يمكن أن تخسره ، ولذلك "من المستبعد أن تخوض غمار حرب شاملة من أجل الأسد" . ويختتم بالقول بأن روسيا وأميركا هما الدولتان اللتان تمتلكان القدرات العسكرية الأكبر في العالم ، وهذا "لا يعني أنه بوسعنا أن نتفق ، بل يعني أن علينا أن نتفق " .

ثمة الكثير من المجازفة في القول ، بأن روسيا قد أصبحت تدرك ، بالفعل ، حجمها الحقيقي في سوريا ، ولذا من المبكر التأكيد ، بأنها أصبحت أكثر قابلية للبحث الفعلي عن حل ما للمقتلة السورية ، قبل فوات الأوان بالنسبة لها . فالمواقع الروسية المعارضة ، التي  تتحدث عن أن روسيا ، خلال كل تاريخها، ما اعتادت أن تعترف بحجمها الحقيقي وقدراتها الفعلية ، إلا بعد أن تقع الواقعة ، هي أدرى بشعاب روسيا من كل الآخرين ، وهي تتحدث من حزنها العميق على ما وصلت إليه روسيا في المستنقع السوري، وما "يلحق بها من عار" بسبب ذلك ، على قول المعارضين الروس.