فستان قصير جداً

محمد خير
السبت   2017/04/01
في ختام أحد أشهر الأفلام الوثائقية عن حياة الثائر الأرجنتيني تشي غيفارا، يقول المعلّق الصوتي إن من السخرية أن الرأسمالية التي قضى غيفارا وهو يحاربها، حولته من أيقونة ثورية إلى سلعة رائجة، تحقق المال الوفير عبر طباعة صورته على القمصان والملصقات والسيارات، وتُسمّى باسمه أنواع السيجار والقبعات والمطاعم والمقاهي والبارات والكافيتريات السياحية.

ترى ماذا كان المعلّق، المنزعج فكرياً في الفيلم، ليقول، لو أنه رأى ما جرى في مدينة الزقازيق المصرية، أمام أحد تلك المقاهي "الغيفارية"، وهو كافيه "تشي غيفارا" في منطقة "القومية" (اسم آخر صار يثير السخرية المُرّة)، مساء الخميس 30 آذار/مارس؟ المشهد لمئات الشبان، يتجمعون حول شيء أو شخص غير ظاهر، ثم يتضح – من الأخبار لا الصورة - أنها فتاة، طالبة في التاسعة عشرة من عمرها، كانت عائدة من حفلة زفاف لإحدى صديقاتها، حين قرر أحد الشبان أن يتحرش بها لفظياً، قبل أن يمد يده إلى جسدها، ولم تفعل استغاثتها إلا أن جذبت العشرات ثم مئات الشبان والمراهقين الآخرين، تتراوح أعمارهم بين 14 و19 عاماً، مرتكبين واقعة جديدة من وقائع التحرش الجماعي المتكررة في العقد المصري الأخير.

يقول الموقع الإخباري واسع الانتشار، إن الفتاة كانت ترتدي "فستاناً قصيراً جداً"، ويعيدها ويؤكدها في التقرير مرات عديدة: "فستان قصير، فستان قصير جداً، فستان شبه عارٍ"، تارة على لسان محرر الخبر، وتارة على ألسنة شهود عيان، أو نسبةً إلى التحقيقات الشرطة. وبعد ساعات "انفرد" الموقع ذاته بـ"أول صورة لفتاة الزقازيق المتحرَّش بها"، وهي صورة من الخلف للفتاة، بعد إدخالها "الكافيه" لحمايتها. الصورة ليست للحظة التحرش بحد ذاتها، ولا هي صورة صرّحت الفتاة بنشرها، بل صورة كأنما نشرت فقط للتأكيد بأن الفستان "قصير جداً" كما ذكرت تقارير الموقع مراراً.

لم يكن وصف فستان الفتاة ضرورياً هنا، ليس لأن أكوام الإحصاءات أثبتت أن هجوم المتحرِّش لا يتوقف على ملابس معينة، بل لأن الرأي العام لم يكن قد أفاق بعد من صدمة اغتصاب رضيعة عمرها سنة و8 أشهر من قِبل أحد الجيران، وكان ينبغي لهذا الخبر المروّع أن يغلق إلى الأبد كل لوم يلحق بالضحية، سواء كان لوماً مباشراً، أو غير مباشر عبر الاكتفاء بوصف ملابسها.

لحسن الحظ أن رواد "كافيه غيفارا" والعاملين فيه، لم يهتموا لنوع ملابس الفتاة ضحية التحرش في الزقازيق، بل أدخلوها إلى المكان وقاموا بحمايتها من الهجوم الهائل حتى وصل عناصر الشرطة الذين اضطروا، لفداحة الموقف، إلى إطلاق العيارات النارية في الهواء ليتمكنوا من الخروج بالفتاة عبر الحشد، كما اعتقلوا ستة شبان أفرجت النيابة عن خمسة منهم وأبقت على المتهم الذي تمكنت الفتاة من التعرف عليه.

يمكن القول إن الواقعة، رغم قسوتها، لم تكن أسوأ الوقائع. فثمة فتيات تعرضن لانتهاكات أقسى وإصابات جسدية أفدح، وثمة فتيات لم يستطع حمايتهن أحد، وفتيات لم تصل الشرطة إليهن أو لم تعتقل أحداً ممن تحرش بهن. ثمة سخرية مُرّة هنا، في أن ضحية الزقازيق – على تجربتها الصادمة - كانت أفضل "حظاً" من كثيرات غيرها.

لم يبق إلا التساؤل عن "كل هؤلاء"، عن الحشد الهائل من الشبان والمراهقين المتجمعين حول تلك الضحية الوحيدة. لا ضرورة للسؤال من أين أتى هؤلاء، فقد أتوا كالآخرين من البيوت، وإنما السؤال هو ماذا تلقى هؤلاء في بيوتهم ليتصرفوا بهذه الطريقة؟

ثمة مقولة طريفة في ظاهرها، لفنانة مصرية شابة تصف فيها الوقحين بأنهم "ما تربّوش ربع ساعة" أي أنهم لم يحصلوا سوى على دقائق قليلة من التربية. غير أن العبارة هذه لا تعبّر عن المتحرشين، إذ يبدو أن هؤلاء تلقّوا ما يفوق تلك الدقائق من "التربية السلبية"، إذا جاز التعبير. تربية تكرّس في أذهانهم، المبرر الذي يحتاجه المتحرش وكل مجرم، ليسوّغ جريمته، وهو مبرر لا يختلف كثيراً عن تكرار الموقع الإخباري بأن الفستان كان "قصيراً جداً".