لندن مختلفة

مهند الحاج علي
الجمعة   2017/03/24

ليس الاعتداء الارهابي على جسر وستمنستر وسط لندن، جديداً من ناحية المضمون، إذ سبق أن جرّب أنصار ”داعش“ و”القاعدة“ الدهس والطعن في اعتداءات بأنحاء أوروبا، وأوقعوا حصيلة أكبر بأضعاف. والواقع أن اعتداء يوم الأربعاء الماضي أوقع 5 قتلى بينهم منفذ الاعتداء نفسه وعشرات الجرحى، في حين قتل سائق شاحنة نيس 86 مدنياً دهساً العام الماضي.

لكن، ورغم الفارق الكبير في عدد الضحايا، كانت لندن مختلفة في المشهد التالي للاعتداء، بدءاً في أن أول رد جاء على لسان عمدتها صادق خان، وهو نجل سائق حافلة فقير هاجر إلى العاصمة البريطانية من بلده باكستان.

هذه أول صورة تأتي من لندن بعد الاعتداء. عمدة المدينة المستهدفة مسلم باكستاني الأصل، يرد على المعتدين بأن لندن لن تخاف. قبل أن تجف الدماء، سارع دونالد ترامب جونيور نجل الرئيس الأميركي الحالي، الى انتقاد خان، مستنداً الى مقابلة سابقة له اعتبر فيها أن الارهاب بات جزءاً من حياة المدن. رد خان بأن وجود لندن بحد ذاتها تهديد لعقيدة منفذ الاعتداء، كونها مدينة يتعايش وينصهر فيها بشر من كافة الأعراق والأديان. بالفعل، لا تفوت لندن جنسية أو لغة أو دين أو عرق، بل الأصحّ أنها باتت مصنعاً لتجارب جينية جديدة من فئة الأرباع. هناك في لندن من يُعرّف نفسه بأربعة أرباع من جنسيات وأعراق مختلفة. 

في المقابل، صورة متناقضة إلى حد عنيف. بيد أن الداعشي، مثل أغلب الاسلاميين، بولدوزر أديان ومذاهب وأفكار وسياسات. عالمه لا يحتمل مسجداً مغايراً، فما بالك بكنيسة أو كنيس أو معابد بوذية وهندوسية؟

في لندن 423 مسجداً، علاوة على حسينيات ومصليات وتكيات صوفية. تضم لندن طوائف سُنّية أكثر من أي دولة عربية، وشيعية أكثر من ايران، ويهودية أكثر من اسرائيل. فيها كل الطرق الصوفية، وفيها الأحمدي وسُنّيو المذاهب الأربعة والسلفي الجهادي والاخواني، وفيها الشيعي الخميني الاثني عشري والاسماعيلي والخبري والشيرازي والزيدي والعلوي. فيها أكبر معبد هندوسي في أوروبا، ومعابد بوذية ومثلها للسيخ والبهائيين، ومراكز للصابئة المندائيين والايزيديين. حتى الأديان والحركات الروحية الجديدة لها أثر في لندن. ولا بد أن يُصادف الزائر في مطار هيثرو شرطياً سيخياً أو شرطية محجبة تختم جواز سفرك.

في السياسة كما الدين، تحوي لندن كل شيء من تيار الفوضويين إلى مجموعة محبي الأجبان. على سبيل المثال لا الحصر، لم أر في عقدين وأكثر أمضيتهما في بيروت تجمعاً لحراس الأرز، لكنني شهدته بأعلامه وشعاراته القديمة أمام السفارة اللبنانية في لندن. في إحدى المرات، حاصرت عشيرة بقاعية مبنى السفارة اللبنانية، احتجاجاً على مداهمات في جرود الهرمل، أي على بعد آلاف الأميال!

هذا التنوع يترافق مع ضوابط قانونية تضمن التمثيل العادل وعدم التمييز، والأهم من ذلك، قدرة عالية لدى سكان على تحمّل الآخر المختلف، إذ بات التنوع جزءاً من هويتهم يحتفلون به. 

من هذه البوابة بالذات، انتُخب خان عمدةً عكس التيار السائد في أوروبا والعالم. ورغم كفاءة خان وسجله الجيد في البرلمان، فإن مراقبين كثيرين عزوا انتصاره لغضب الناخبين من تلميحات غير موفقة لخصمه المحافظ زاك غولدسميث، ألمح فيها إلى علاقة بين ديانة الأول، أي الاسلام، وبين ميله للتطرف. مثل هذه التلميحات تأتي برئيس في الولايات المتحدة، لكنها في لندن تصنع مرشحاً خاسراً ونادماً في آن. 

لهذه الأسباب وكثير غيرها، لندن مختلفة، وستبقى كذلك.