مصر و"أوبر الحنطور"

شادي لويس
الثلاثاء   2017/03/21
أعلن محافظ الأقصر، محمد بدر، نهاية شباط/فبراير، عن إطلاق تطبيق للهواتف الخلوية، لحجز عربات الخيول "الحنطور" في المدينة السياحية، عبر الإنترنت. يأتي الإعلان عن المشروع الذي أشارت إليه وسائل الإعلام، بـ"أوبر الحنطور"، ليكشف عن انتصار جديد لمنطق اقتصاد التكنولوجيا التشاركية، الذي كان منوطاً به في الأساس إعادة تشكيل سوق العمل الحر، لكنه الآن يبدو في سبيله ليكون واحداً من آليات أجهزة الدولة التنفيذية للتحفيز الأقتصادي.

ولا تكشف الأخبار التي تم تداولها عن المشروع، إن كان الإشتراك فيه إجبارياً أم لا، أو إن كان مدعوماً من قبل المحافظة أم سيخصم التطبيق نسبة من الدخل لصالح جهة سواء خاصة أو حكومية. لكن ما يتضمنه تصريح المحافظ يؤكد على أن التطبيق يشترك مع "أوبر" والتطبيقات المشابهة في اعتماده على آليات "الإدارة الخوارزمية"، إذ سيتمكن السائحون والمواطنون المحليون، عبر التطبيق، من الإطلاع على الأسعار وملف سائق الحنطور وتقييم أدائه. بالإضافة إلى حجز الخدمة بالطبع. وبينما يبدو نموذج "أوبر الحنطور"، الذي سيلزم سائقيه بزي موحد بحسب تصريحات المحافظ، على النقيض من منطق اقتصاد التكنولوجيا التشاركية، الذي يفترض فيه خلق وظائف مرنة تمنح أصحابها قدراً غير مسبوق من الإستقلالية لم تكن تتيحه نماذج الإقتصاد الحر التقليدي. فالمشروع الجديد لا يقوم سوى بإعادة هيكلة نشاط خدمي قائم بالفعل، وتكثيف أسوار الرقابة عليه، لصالح المستهلكين، وكذلك الحدّ من حرية العاملين فيه، في تحديد أسعار الخدمة على سبيل المثال.

يقدم "أوبر الحنطور" نموذجاً محبباً لمنتقدي اقتصاد الوظائف المرنة، الذين يرون في وسائله للإدارة الخوارزمية تحققاً للكوابيس "الفوكوية" للإدارة الدقيقة والسيطرة عن بعد، و"ديستوتبيات" أدب الخيال العلمي عن الهيمنة المطلقة للروبوتات على البشر. بالإضافة إلى تجذير الإغتراب الإنساني، بحسب ماركس، داخل منظومة الإنتاج، والتي يتم تكثيف فردنتها وعزلة الفرد داخلها ونزع "الإنساني" من وسائل إداراتها إلى أقصى حد. لكن ومع وجاهة الكثير من تلك الإنتقادات، أو على الأقل في الغرب، فان تكنولوجيا الإدارة الخوارزمية لا تبدو شراً مطلقاً.

فقبل يومين، أطلق "أوبر مصر"، خاصية جديدة للتأكد الفوري من شخصية السائق، إذ يجب على السائق أخذ صورة "سيلفي" يقارنها التطبيق بصورة صاحب الحساب، قبل السماح للسائق بتقديم الخدمة. ومع ما يكشفه التطبيق الجديد عن الإمكانات شبة المطلقة للتكنولوجيا الرقمية في التتبع اللحظي والمراقبة اللصيقة والدائمة وبالحد الأدني من التدخل البشري، وكذلك عن علاقة الإخضاع التعاقدي الكامل بين الإدارة والسائق الذي يبدو مجبراً على قبول تلك التغييرات الجديدة وغيرها، فإن تلك الخاصية والتي تضيف طبقة إضافية من الأمان لصالح المستهلكين، تأتي كتأكيد جديد على الدور الجذري الذي لعبته "أوبر" والتطبيقات المشابهة مثل "كريم" في شعور النساء في مصر بالأمان، ومدى قدرتهن على استخدام وسائل النقل والحركة في الأماكن العامة، التي طالما ما حدّتها الانتهاكات الجنسية التي تتعرض لها النساء بشكل اعتيادي وبمعدلات مخيفة سواء في وسائل النقل العام أو سيارات الأجرة.

في السياق، يبدو من حق الحراك النسوي في مصر أن يحتفي بقدرته على وضع مسألة أمن وكرامة المرأة في الأماكن العامة على قائمة عمل الدولة ومؤسسات الإقتصاد الجديد، فـ"أوبر مصر" في الشهور الأولى لبدء عمله، أعلن عن قيامه بتوعية السائقين في موضوع التحرش الجنسي، والتشديد على قواعد السلوك اللائقة مع مستخدمي الخدمة، خاصة النساء، وعقوبات مخالفتها الإدارية والجنائية.

لكن خصائص الأمان، لم تعفِ "أوبر" من اتهامات بإهانة المرأة، ففي ذكرى يوم المرأة المصرية، الأسبوع الماضي، انتقدت تقارير تلفزيونية وصحافية، لوحة إعلانية ضخمة في شوارع القاهرة في حملة الشركة الدعائية الأخيرة: "من ساعة أوبر، هربت من توصيلة حماتي 64"، بوصفها تقليلاً من شأن المرأة، وإهانة لقيم وتقاليد الترابط الأسري المصرية. يفتقد منتقدو الإعلان للقليل من سعة الصدر، وروح الفكاهة. فالإعلان لا يبدو متضمناً ما يبعث على القلق على قيم وتقاليد الأسرة المصرية، ولا وضع المرأة في المجال العام، لكنه ربما بشكل غير متعمد، يشير إلى التغييرات الجذرية وما يواكبها من صدامات، والتي يفرضها اقتصاد الوظائف المرنة/التكنولوجيا التشاركية على علاقات العمل والإنتاج، والتي ربما سيعتبرها أي ماركسي تقليدي الأساس المادي والوحيد لبنى المجتمع الفوقية بكل صورها، بدءاً من العلاقات الأسرية وصولا إلى شكل المؤسسات السياسية للطبقة الحاكمة.

إلا أن الأمر ليس محض تنظيرات ماركسية توقف معظم أصحابها عن ترويجها بالفعل منذ عقود. ففي مطلع الأسبوع الماضي، نظم سائقو "التاكسي الأبيض"، وهو نظام سيارات الأجرة المعتمد في القاهرة، وقفة احتجاجية، في منطقة ألماظة في مصر الجديدة، ضد الشركات العاملة في نقل الركاب عبر الهواتف الذكية، لتدميرها نشاط سيارات الأجرة التي لا يقدر أصحابها على منافسة مؤسسات عابرة للقارات، وبرؤوس أموال تتعدي حجم موازنة الدولة المصرية نفسها. وهي بالطبع ليست الوققة الإحتجاجية الأولى، وإن جاءت بعد أسبوع واحد من تحديد مجلس الدولة المصري، 11 نيسان/إبريل، للنظر في جلسة دعوى الطعن، التي أقامها ممثلون عن سائقي ومالكي "التاكسي الأبيض" ضد الحكومة ورئيس الوزراء، لامتناعهم عن إيقاف ترخيص شركة "أوبر" ومثيلاتها لنشاطها في مصر، لمخالفتها قانون المرور المصري.

ولا يتوقف الأمر عند مجرد صدام بين النموذج الاقتصادي الجديد وأصحاب المصلحة في بقاء النظام الأقدم، فمنذ ثلاثة أيام نشرت جريدة "البورصة" المصرية خبراً عن سعي بعض سائقي "أوبر مصر" لتشكيل رابطة للتفاوض مع الشركة بشأن مطالبهم المادية والإجتماعية، خاصة إجراءات تحويل المستحقات، ونسبة عمولة الشركة، وأسعار الخدمة، وغيرها من القواعد التي تقوم الشركة بتغييرها وفرضها إجباريا على السائقين بشكل دوري.

يشي مشروع "أوبر الحنطور" الحكومي، والنزاعات القانونية والنشاط الإحتجاجي المتعلق بتكنولوجيا الاقتصاد التشاركي والوظائف المرنة في مصر، بمقدمة مبكرة لتغيير مجمل علاقات الإنتاج والإستهلاك، بشكل جذري، في المستقبل، وما يتضمنه هذا من إمكانات ومخاطر، تتطلب تعديلات قانونية وهيكيلة لتوائم ذلك الواقع الجديد سريع التغيّر. والأهم هو تصور سياسي محلي قادر على تطوير مناهجه في التعامل مع النشاط النقابي، وموازنة مصالح كل من العاملين والمستهلكين في مواجهة الرأسمال العابر للقارات. وكذلك في ربط ذلك المنهج بتفاعلات ومواجهات أوسع على الساحة المعولمة للاقتصاد الجديد وتكنولوجياته.