نظام مابعد الغرب

علي العبدالله
الأربعاء   2017/03/01

أثارت دعوة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خلال مشاركته في مؤتمر الأمن في ميونيخ/ألمانيا يوم السبت 18/2/2017، الى قيام نظام عالمي جديد وصفه بـ " ديمقراطي وعادل"، واعتبره "نظام ما بعد الغرب"، أثارت أسئلة حول دلالة الدعوة وتوقيتها ومدى منطقيتها في ضوء واقع التوازنات الدولية والعلاقات الراهنة بين القوى الكبرى التي تتسم بالتوتر والجمود؟.

ربطت بعض التعليقات بين الدعوة والتطورات الدولية والإقليمية التي ترتبت على السياسة الخارجية الأميركية في ظل الإدارة السابقة وما حققته روسيا من انجازات ميدانية في كل من أوكرانيا وسوريا، وسعيها الى تثبيت هذه المكتسبات عبر طرح برامج وخطط "برغماتية" تتراوح بين "التصعيد" و "التحدي" و "الدعوة الى التعاون والشراكة في التعاطي مع الملفات والأزمات الدولية الساخنة"، على أمل استدراج الإدارة الأميركية الجديدة الى القبول بدور روسي دولي موازي ومساوي للدور الأميركي، وعقد صفقة شاملة بين الدولتين كبديل من الانزلاق الى مواجهات وحرب باردة جديدة. وربطتها تعليقات أخرى بالهزة التي لحقت بالاتحاد الأوروبي نتيجة التصويت على خروج المملكة المتحدة منه، وبتداعيات انتخاب الرئيس الأميركي الجديد وما ترتب على مواقفه وتصريحاته من ردود أفعال عالمية، أوروبية بشكل خاص، في ضوء تعارضها مع المنطلقات التقليدية للسياسة الغربية والأميركية من جهة وتعارضها مع احتياجات التحالف الغربي للتصدي لطموحات الرئيس الروسي وسعيه لاختراق التحاف الغربي وزعزعة استقرار القارة الأوروبية من جهة ثانية.    

غير أن الدعوة/الخطة تفتقر الى الواقعية والعملية ذلك لان التوازن الدولي مازال مختلا لصالح الولايات المتحدة الأميركية، وان ما حققته روسيا خلال الأعوام الأخيرة لا يعكس حقيقة توازن القوى بينها وبين الولايات المتحدة ولا يسمح لها بتحقيق مكاسب أخرى بحيث تدفع الإدارة الأميركية الجديدة الى القبول بالمساومة والتوجه نحو التفاهم تلافيا لخسارة أميركية جديدة في الملفات العالقة بينهما.  

قرأت روسيا، والصين وبعض القوى الإقليمية، توجه الإدارة الأميركية السابقة لإجراء تعديلات على قواعد عمل العلاقات الدولية وعملها على الاتفاق على قواعد جديدة قائمة على الشراكة والتعاون وإقامة تفاهمات دولية وإقليمية تقود الى التهدئة وتقليص اللجوء الى القوة، باعتباره  دليل ضعف، إن لم يكن دليل عجز، وعملت على تحقيق مكاسب سياسية وجيوسياسية خلال فترتي حكم هذه الإدارة عبر تطوير سياسة هجومية في أوكرانيا بداية وفي سوريا تاليا، هناك مؤشرات على تحرك مماثل قريب في ليبيا، مصحوبة بدعوات متتالية لإجراء مفاوضات حول النظام الدولي الأحادي القطبية، الذي قام بُعيد سقوط جدار برلين، من أجل العودة الى نظام ثنائي القطبية يتم فيه تقاسم النفوذ بين الدولتين العظميين، ناهيك عن قراءتها الخاطئة لحقيقة السجال الأوروبي الأميركي الذي أثارته تصريحات الرئيس الأميركي ضد الاتحاد الأوروبي، وتشجيعه لظاهرة "البريكسيت"، وضد حلف الناتو(تصريحات لاستعادة حصة واشنطن في الاقتصاد الدولي عبر ضبط التحالف وإعادة علاقة الهيمنة الأميركية وسيطرتها على توجهات الحلفاء الأوروبيين وتحميلهم جزءا كبيرا من فاتورة الدفاع) باعتبارها إياه بداية انفراط التحالف الغربي، ما يفتح لها المجال لتسجيل نقاط في صراعها الجيوسياسي المفتوح مع الاتحاد الأوروبي.    

لم تكتف روسيا، بالرغم من تجاهل الإدارة الأميركية السابقة للدعوات الروسية في ضوء تقديرها لتوازن القوى، استهزأ الرئيس الأميركي السابق من هذه الدعوات بوصفه روسيا بـ "قوة إقليمية"، بهذه الدعوات بل أطلق الرئيس الروسي شروطه للمصالحة وتطبيع العلاقات، شروط تعكس سوء تقدير فاضح، لخصها بـ: الاعتراف بضم جزيرة القرم، رفع العقوبات وتعويض روسيا عن الخسائر التي لحقت بها بسببها، وقف تمدد حلف الناتو شرقا، التخلي عن نصب الدرع الصاروخية. وهذا قاد الى تدهور العلاقات بين الدولتين الى درجة غير مسبوقة.

لا يمكن لروسيا وضع نفسها على قدم المساواة مع الولايات المتحدة. صحيح أن الولايات المتحدة قد خسرت جزءا من قدرتها بسبب تراجعها في مجال الاقتصاد، وأنها مالت الى المهادنة والاستعداد للتخلي عن لعب دور الشرطي العالمي والتوجه لإشراك قوى أخرى في إدارة الملفات الساخنة وحل الصراعات الدولية والإقليمية لتقليص الفاتورة التي تدفعها ثمنا للقيادة العالمية، وان لدى روسيا قوة عسكرية ضخمة، خاصة في المجال النووي، إلا أنها لا تمتلك القدرة اللازمة للانخراط في تنافس شامل مع الولايات المتحدة فالأخيرة تمتلك تراكما علميا وتقنيا وإداريا يتيح لها التكيف مع المتغيرات والتحرك لاحتواء الأخطار والأضرار، وانه لا يكفي أن يكون لدى روسيا قوة عسكرية لتدخل في صراع وتنافس مع الولايات المتحدة، فالصراع بين الدول لا تحكمه " القوة" وإنما "القدرة"، و"القوة" غير "القدرة"، فـ "القوة" جزئية بينما "القدرة" شاملة وهي محصلة مجموع "قوى" الدولة في النواحي الثلاث التي تقوم عليها: القوة السياسية، القوة الاقتصادية، القوة العسكرية، وهي (روسيا) صورة طبق الأصل عن الاتحاد السوفياتي الذي وصف آنذاك بـ "عملاق" بساقين واحدة جبارة(العسكرية)والثانية هزيلة(الاقتصادية)، علما أن الاقتصاد هو مركز الثقل في الدول الحديثة عامة والعظمى خاصة، لان استمرار القوة العسكرية مرتبط بقدرة الاقتصاد على تمويلها، فاقتصادها مازال يعتمد على تصدير المواد الطبيعية(النفط والغاز) وهي عرضة لاهتزازات السوق نتيجة تقلبات العرض والطلب، وقد شهد على ذلك تنامي الموارد عندما ارتفعت أسعار النفط وتراجعها القاسي عندما انهارت الأسعار.

أمام قبول الدعوة الروسية الى قيام نظام دولي جديد عقبات كبيرة أولها عدم استعداد الغرب للمساومة على دوره وموقعه في المعادلة الدولية، وهذا ما أكده الرئيس الأميركي الجديد بإعلاناته المتواترة عن استعادة مكانة الولايات المتحدة وتعزيز ترسانتها النووية وتحسينها وزيادة موازنة وزارة الدفاع. وثانيها عدم وجود اتفاق على شكل النظام الدولي البديل، فروسيا التي تطالب بنظام بديل لنظام الغرب تعمل من اجل عودة النظام ثنائي القطبية، وهذا يضعها على الضد من توجهات دول كبرى أخرى تشاركها في رفض استمرار هيمنة الغرب على النظام الدولي، من بينها شركاؤها في مجموعة البريكس، لكنها تدعو وتعمل من أجل قيام نظام متعدد الأقطاب، وهذا يضعف الموقف الروسي في مواجهة الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة، ويحد من فرص نجاح دعوتها.

لن يبكي أحد النظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب ويسيطر من خلاله على التوجهات الدولية والإقليمية وعلى الاقتصاد الدولي لكن المعضلة إن النظم التي تدعو لاستبداله لا تشكل بديلا مناسبا، فعدا عن كونها نظما سلطوية وقمعية في أوطانها فإنها وقفت ضد تطلعات الشعوب في الحرية والكرامة، وفق إعلان وزير الدفاع الروسي عن دور روسيا في القضاء على الثورات الملونة في الربيع العربي، ما جعل مطالبة لافروف بنظام دولي "ديمقراطي وعادل" مفارقة عجيبة وبغيضة.