نهاية شهر العسل

محمد العزير
الأربعاء   2017/02/15

إنتهى شهر العسل. إستهلك الرئيس الأميركي الخامس والأربعون دونالد ترامب فترة السماح التقليدية التي تمتد في العادة الى مئة يوم في اقل من ثلاثة أسابيع، لينطبق على المشهد السياسي في أميركا التعبير الشعبي اللبناني المعبّر: "طارت السكرة وجاءت الفكرة". الصدمة الإيجابية التي أرادها ترامب وفريقه من خلال سيل المراسيم التنفيذية ارتدت على البيت الأبيض بسرعة وكشفت هشاشة الإدارة الجديدة وانعدام كفاءتها.

لم يقتصر الأمر على الرفض القضائي الحاسم لمرسوم منع دخول مواطني سبع دول عربية وإسلامية، الذي كرسته هيئة مصغرة من المحكمة الفدرالية التاسعة فقط، بل طاولت المشاكل مراسيم أخرى تتعلق بمجلس الأمن القومي وحماية المودعين، وأضفىت عليه تغريدات ترامب المتلاحقة ومواقفه الغريبة مسحة من الشعور بالقلق على مؤسسة الرئاسة والمستقبل القريب للبلاد في ظل السلوك الإعتباطي لترامب ومساعديه.

قضائيًا، أيدت هيئة مصغرة تضم ثلاثة قضاة من محكمة الإستئناف الفدرالية التاسعة في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا، قرار القاضي الفدرالي في مدينة سياتل بولاية واشنطن جيمس روبارت بوقف العمل بالمرسوم كليًا، بعدما كانت القاضية الفدرالية في بروكلين، نيويورك، آن دونيللي حكمت في اليوم التالي لصدوره بوقف العمل ببعض مفاعيله سامحة للمحتجزين في المطارات بدخول الولايات المتحدة دون تأخير.

جاء حكم الهيئة القضائية الفدرالية الناظرة في دعوى ولايتي واشنطن ووسكونسن ضد ترامب في قرار بالإجماع وتمت صياغته بلغة حازمة فنّدت مساوئ المرسوم، على الرغم من الحملة الإستباقية العلنية التي شنها ترامب على المحكمة عبر وسائل الإعلام والتغريدات على تويتر، بلغة لا تخلو من التحدي محملاً القضاة والمحكمة مسؤولية اية اعتداءات إرهابية مستقبلية، الا ان ردة فعله الفورية على القرار كانت الأغرب على الإطلاق حيت غرّد بالخط العريض "اراكم في المحكمة" وهي جملة يستخدمها المتخاصمون في قضايا مدنية او تجارية للتعبير عن عزمهم مقاضاة خصومهم، الا ان الخصم في هذه الحال هي المحكمة. ولم يسلم من تغريدات الرئيس القضاة الذين حكموا منفردين في القضية كل حسب ولايته.
وكان المرسوم التنفيذي الصادر في الثالث من شباط /فبراير الحالي موضع شكاوى عاجلة امام المحاكم الفدرالية في ولايات واشنطن، فرجينيا، نيويورك، ماساشوستس، كاليفورنيا، تكساس، وميشيغن، واجمعت الأحكام الصادرة على رفض المرسوم ومندرجاته، لكن كل هذه القضايا أصبحت في حكم اللاغية بعد حكم المحكمة التاسعة، والذي يعني أن المحكمة بكامل هيئتها، والتي تضم في عضويتها قاضيين كانا من اللاجئين الى اميركا، ستنظر تلقائيًا في القضية وتبت فيها كخطوة أخيرة قبل الوصول الى المحكمة الدستورية العليا، والملفت ان حوالي مئة من كبريات شركات التقنيات والإنترنت، ومنها غوغل وآبل وفيسبوك انضمت الى جهة الادعاء ضد ترامب في القضية، فيما تضاربت مواقف الإدارة والرئيس حول ما اذا كانوا سيستمرون في الدعوى او سيصيغون مرسومًا جديدًا يتفادى الثغرات التي أطاحت بالمرسوم الأصلي.

واحدثت ردود فعل ترامب على الحكم والمحكمة متاعب جديدة للإدارة في مكان آخر، حيث صرّح بعض أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الديمقراطي أن مرشح ترامب لملء المقعد الشاغر في المحكمة الدستورية العليا، القاضي المحافظ نيل غورسيتش، أعرب عن استيائه من تهجم ترامب على القضاء واعتبر تصرفاته محبطة ومخيبة للآمال، مما دفع ترامب الى التغريد مجددًا مهاجمًا السيناتور الذي أعلن ذلك متهمًا إياه بالكذب، مع أن البيت الأبيض ومساعدي غورسيتش أكدوا موقفه.

حجب الاهتمام الإعلامي الواسع داخليًا ودوليًا، بالرفض القضائي لمرسوم الهجرة والتأشيرات، اخبار فشل قضائي موازٍ لمرسوم تنفيذي آخر يتعلق بالسياسة الإئتمانية التي اقرتها وزارة العمل في عهد الرئيس أوباما لحماية ودائع الموظفين المتقاعدين في حسابات الإستثمار، وإلزام المصارف والمؤسسات المالية التي تدير المحافظ الإستثمارية لصناديق التقاعد بتقديم الإستشارة الى المودعين بما يتلاءم مع مصلحتهم وفائدتهم. الا ان المرسوم التنفيذي الذي أصدره ترامب لتأجيل بدء العمل بالسياسة الجديدة كما هو مقرر في نيسان المقبل، كان الأساس في استدعاء قانوني تقدمت به غرفة التجارة الأميركية وشركات التأمين امام المحكمة الفدرالية في شمال تكساس.

وضمنّت القاضية الفدرالية بربارة لين في قرار مفصل من 81 صفحة رفض المحكمة القاطع للإستدعاء وللمرسوم التنفيذي، مؤيدة القرار الإبتدائي للقاضي الفدرالي راندولف دانيال موس في واشنطن العاصمة في حين رفض قاض فدرالي في ولاية كنساس النظر في القضية التي ستعرض لاحقًا على المحكمة الفدرالية في واشنطن والتي يُرجّح ان تؤيد قراري القاضيين لين وموس.

المرسوم الثالث الذي اثار عاصفة من الإنتقاد قضى بتغيير هيكلية مجلس الأمن القومي وحرم من عضويته الدائمة كلاً من رئيس اركان القوات المسلحة ومدير المخابرات الوطنية، وحصر حضورهما لإجتماعاته حين تدعو الحاجة الى الاستعانة بهما لأمور تتعلق بمسؤولياتهما. مقابل ذلك أمر ترامب بجعل مستشاره الأول، المتهم بالتطرف والعنصرية، ستيف بانون عضوًا دائمًا في المجلس مما اثار مطالبات فورية من المشرعين الديمقراطيين بضرورة حصول بانون على تزكية مجلس الشيوخ باعتبار هذا المنصب من المواقع الحساسة.

كذلك اثار المرسوم المتعلق بتكليف وزير الخزانة إعادة النظر بقانون التنظيم المالي الذي صدر بعد الإنهيار العقاري والإئتماني عام 2008 والمعروف باسم قانون "دود – فرانك"، والذي يضع قيودًا ملموسة على القرارات الإستثمارية للمصارف والشركات المالية وأسواق التبادل والبورصة، ويمنعها من المقامرة غير المحسوبة في أسواق النقد والتأمين، استنكار الكثيرين من السياسيين والنشطاء الذين يعتبرون ذلك القانون بداية الطريق لضبط عشوائية السوق، وحماية صغار المودعين والمستثمرين.

وفيما حملت مراسيم أخرى طابعًا رمزيًا للتأكيد على التزام ترامب بوعوده الانتخابية مثل ثلاثة منها تأمر بتشكيل لجان عمل لمحاربة المخدرات وخفض معدلات الجرائم والتقليل من الهجمات على قوى الأمن، حاول ترامب استرضاء اليمين الديني في مرسوم يعيد العمل بقانون يمنع اية مساعدة حكومية أميركية لأية مؤسسة عالمية تجري او تساعد في عمليات الإجهاض، كما أمر في مرسوم آخر بمباشرة العمل باستكمال انبوبي نفط مثيرين للمخاوف البيئية والمعارضة المحلية، وسبق لإدارة أوباما ان أمرت بمنعهما.

وفي مرسوم آخر يفتقر الى أي مضمون، أمر ترامب وزارة الدفاع بوضع خطة لهزيمة تنظيم داعش خلال ثلاثين يومًا، كما امهلها ثلاثين يومًا لمراجعة الجهوزية العسكرية للقوات الأميركية، وطلب في مرسوم ثالث منع التوظيف في بعض الوكالات الفدرالية، وفي مرسوم رابع أمر الوزارات والوكالات الفدرالية بإلغاء اثنين من الأنظمة الرقابية القديمة مقابل كل تدبير رقابي جديد تتخذه، ليكون المرسوم الأكثر غموضًا الطلب من الوكالات الفدرالية التخفيف من القيود التي وضعها قانون الإصلاح الصحي في عهد أوباما على الشركات. اما في العلاقات الدولية فامر مرسوم تنفيذي آخر ببدء العمل للإنسحاب من معاهدة التجارة الأميركية الباسيفيكية المعروفة باسم "تي.بي.بي" (TPP).

لم يكن وابل المراسيم التي بلغ عددها 22، وجاء البعض منها مشوبًا بأخطاء لغوية او تدوينية، سلسًا خصوصًا وان ترامب حرص على توقيع كل واحد منها في احتفال عام في البيت الأبيض بحضور أركان ادارته وكبار مساعديه. أولى ضحايا المراسيم كانت وزيرة العدل بالوكالة سالي يايتس التي رفضت المرافعة عن المرسوم المتعلق بالهجرة والتأشيرات واللجوء امام القضاء. ومع ان منصب يايتس كان انتقاليًا بانتظار تزكية وزير العدل الجديد جف سيشن، عمد ترامب الى إقالتها ليكون الرئيس الثاني بعد ريتشارد نيكسون الذي يقصي راس السلطة العدلية.

جاء ذلك في اعقاب استقالة جماعية لقمة الهرم الوظيفي في وزارة الخارجية قبيل تزكية وزير الخارجية الجديد ريكس تيلرسون. فقد تقدم الفريق الإداري للوزارة باستقالة جماعية شملت نائب وزير الخارجية لشؤون التنظيم باتريك كينيدي الذي شغل هذا المنصب لتسع سنوات، ومساعدة الوزير لشؤون الإدارة جويس آن بار، ومساعدة الوزير للشؤون القنصلية ميشيل بوند، ومدير مكتب البعثات الخارجية السفير جينتري سميث، وجميعهم من الملاك الإداري وليسوا معينين من الرئيس. وكان سبقهم الى الاستقالة من الوزارة كل من مساعد الوزير للأمن الدبلوماسي غريغوري ستار، والمديرة المسؤولة عن مباني البعثات الدبلوماسية ليديا موينز. ما يعني ان المراتب الإدارية العليا في الوزارة أصبحت شاغرة.

ولم تساعد تصريحات ترامب او تغريداته ولا تصريحات معاونيه واقوالهم في التخفيف من الجو المحتقن في واشنطن، ففي اول مشاركة رسمية له كرئيس في حفلة الصلاة الوطنية السنوية وهي من اكثر المناسبات رصانة في العاصمة، اختار ترامب ان يهاجم الممثل المعروف وحاكم ولاية كاليفورنيا السابق ارنولد شوارتسنغر الذي حل محله كمقدم لبرنامج تلفزيون الواقع "المبتدئ" متباهيًا بأنه كان يحظى بعدد اكبر من المشاهدين. كما واصل تغريداته المناكفة مع ممثلين واعلاميين، وهاجم الاعلام ككل متهمًا إياه بالأخبار المزيفة باستثناء قناة فوكس نيوز، وأصّر على ان إحتفال تنصيبه كان الأكبر في التاريخ، واثار الكثير من اللغط عندما ادعى ان ثلاثة ملايين من المهاجرين غير الشرعيين صوتوا ضده في الانتخابات.

وإذا كان من الصعب تمامًا الإحاطة بكل خناقات ترامب ومشاحناته التويترية، فالمؤكد انه نجح في الغاء زيارة رئيس المكسيك انريكي نياتو الى واشنطن، بعدما قال انه لا داعي للزيارة ان لم تكن لترتيب دفع المكسيك لتكاليف بناء جدار الفصل الحدودي معها، ليرد عليه نظيره المكسيكي بالعزوف عنها. كما باشر معركة جديدة مع شركة بيع التجزئة الكبيرة نوردستروم لأنها قررت الإستغناء عن بيع الألبسة والأحذية والإكسسوارات، التي تنتجها ابنة الرئيس ايفانكا، في محلاتها، ومع ان الشركة قالت ان القرار جاء بسبب قلة مبيعات تلك الماركة، حوّل ترامب الموضوع الى قضية عامة، واندفع مساعدوه لدعوة المواطنين لشراء تلك المنتجات في مخالفة واضحة للقانون.
كما عمد مساعدو ترامب، من الناطق باسم البيت الأبيض شون سبايسر الى مستشارته الأولى كايليان كونواي الى مؤيديه في الإعلام اليميني، الى نشر اخبار غير صحيحة او مبالغ فيها عن حجم الحضور في حفلة التنصيب، وعن تصويت المهاجرين غير الشرعيين، أو حتى فبركة احداث لم تحصل مثل ادعاء كونواي بأن لاجئين من العراق نفذا مجزرة في مدينة بولينغ غرين في ولاية كنتكي، او ادعاء سبايسر حصول هجوم إرهابي "إسلامي" في مدينة أتلنتا في ولاية جورجيا.
وحتى يكتمل المشهد السريالي، كشفت الصحافة الأميركية أن مستشار الأمن القومي الذي عينه ترامب الجنرال المتقاعد مايكل فلين كان على تواصل مع السفير الروسي في واشنطن سيرغي كيسلياك ليناقش معه مسألة العقوبات الأميركية على روسيا والتي فرضتها إدارة أوباما على موسكو بعد احتلال جزيرة القرم والمنطقة الشرقية من أوكرانيا، وان تلك المحادثات كانت تجري قبل تسلم ترامب لمهام منصبه. وهو ما إضطر فلين الى الاستقالة من منصبه وسط أنباء عن أنه ربما كان عرضة للابتزاز الروسي، بعدما سبق ان تلقى أموالا من موسكو.

حتى الآن يبدو ان البرامج الكوميدية وفقرات الفكاهة الليلية على التلفزيون هي المستفيد الأكبر من رئاسة ترامب التي توفر لها مواداً يومية غنية. المشكلة بالنسبة للكثيرين من الأميركيين أن الأمر قد يكون طريفًا فعلاً لو أنه لم يكن بهذه الجدية وليس محفوفًا بمخاطر حقيقية، دفعت بعض أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري الى التساؤل بصوت عال عن الصحة العقلية للرئيس على حد قول السيناتور الديمقراطي عن ولاية مينيسوتا آل فرانكين.