دماء في مقهى

محمد خير
السبت   2017/02/11
ألم يكن من الأفضل للدولة المصرية، بدلاً من إطلاق باقة القنوات التلفزيونية العملاقة DMC، التي بلغت كلفتها مئات الملايين من الدولارات، أن تحاول الحصول على حق بث ما يهم الجمهور فعلاً ويعجز عن الحصول عليه، مثل مباريات الفريق الوطني لكرة القدم، باعث البسمة الوحيد على شفاه المصريين في السنوات المُرّة؟

كان هذا رأي فئة كبيرة من الجمهور عند إطلاق القنوات التي عجّت بكبار النجوم يقدمون برامجها وفقراتها، لكنها -مع ذلك– لا تقدم جديداً، بل اللقاءات والحكايات و"الإفيهات" نفسها، فيما ينشغل ملايين المشاهدين في البحث عن أقمار صناعية منسية، أو روابط انترنت، تبث لهم المباريات التي لا يستطيعون دفع قيمة اشتراكها الشهري في قنوات "بي-إن سبورت" القَطَرية. والمفارقة أن إطلاق القنوات الجديدة، والتي تقف وراءها الدولة بشكل غير مباشر (رسميًا يملكها رجال أعمال)، جاء ليكون - بصفة غير مباشرة أيضاً - بمثابة جزء من الحرب الإعلامية السرمدية مع "الجزيرة" بأنواعها. لكن، وتماماً مثل نكتة "جحا" الذي بحث في الشارع المضيء عن نقوده الضائعة (لأن الشارع الآخر مظلم ولن يستطيع أن يبحث فيه)، أخذت القنوات الجديدة تبث المزيد من البرامج الفنية والكوميدية لمنافسة "الجزيرة"، بينما ميدان "الحرب" مع القناة القطرية هو السياسة والرياضة.

ربما لم يكن لمحمود بيومي (24 عاماً) صلة بكل هذا. الشاب الوسيم الذي قُتل بعد حضوره المباراة النهائية بين مصر والكاميرون، في أحد مقاهي منطقة مصر الجديدة، يتحدر من أسرة ميسورة وهو خريج جامعة بريطانية، فلا بد أنه كان يستطيع تحمل كلفة الاشتراك في قنوات "بي-إن سبورت"، لكنه ربما أراد فقط حضور المباراة مع أصدقائه، وربما لم يكن من المهووسين بالرياضة بل ممن يتذكرون مباريات الكرة في المنافسات القومية الكبيرة. لكن المؤكد أن عجز القنوات المصرية الرسمية والخاصة عن الحصول على حق بث مباريات الفريق المصري على الأقل، ساهم في مقتل محمود أمام عيني خطيبته وأصحابه وزبائن المقهى.

في دفاع المقهى "الراقي" عن نفسه، قال إن القاتل ليس من العمال الثابتين في المقهى، بل هو أحد الأشخاص الذين استعان بهم المقهى لمواجهة "ضغط المباريات". هذا الضغط الذي خلقه عجز التلفزيون المصري عن بث مباريات يتابعها – حرفياً - كل المصريين، خلق "بيزنس" قائماً على تلك المناسبات فحسب. فالمقهى الذي يمتلئ نصفه أو ثلثاه في الأحوال العادية، يمتلئ بأَضعاف طاقته في وقت المباريات. ومن أجل "السيطرة" على جمهور المباراة الكبير، يستعين المقهى بعمال إضافيين، ويستعين أحيانا بـ"بلطجية"، كان قاتل محمود واحداً منهم.

وقع الشجار بين محمود وإدارة المقهى بسبب تعرفة minimum charge (الحد الأدنى للطلبات"، وهو سلوك غير قانوني يلجأ إليه الكثير من المطاعم والمقاهي لضمان حد أدنى من الربح. وبحسب شهود عيان، أغلقت إدارة المقهى الأبواب بعد المباراة، ورفضت السماح للزبائن بالخروج إلا بعد تحصيل الفواتير. سلوك مذهل في وقاحته استفز محمود وأصحابه فوصفوا السلوك "بالبلطجة". دفع محمود فاتورته مرغماً، وغادر، لكن الإدارة قررت أن تعاقبه على ما تلفّظ به، فأوعزت إلى بعض العمال بالانتقام من محمود بعد خروجه من باب المقهى، ففعلوا ذلك. أحدهم، تحمّس أكثر من اللازم فطعن محمود في قلبه، فسقط مضرجاً بدمائه وسط ذهول الجميع، ومات في المستشفى.

بعد ضبط القاتل، وضبط الإدارة المحرّضة، لم تكتف السلطات بإغلاق المقهى، بل شنت حملة في أنحاء القاهرة لإغلاق المقاهي "غير المرخصة". اثنان من الفنانين الكبار نفيا شائعات ربطتهما بملكية المقهى. أعلن الأمن تواجده في الشارع خلال المباراة المهمة التالية بين "الأهلي" و"الزمالك" لمنع التجاوزات، ونشر جهاز "حماية المستهلك" رقماً هاتفياً للإبلاغ عن المقاهي التي تفرض الـ"مينيموم تشارج". بطبيعة الحال، لم يُفد محمود من هذا كله. رقد شاباً تحت التراب، ورقدت خطيبته في المستشفى. وبعد يومين لحقت عمّة محمود به من فرط الحزن، لم تتحمل فجيعتها وفراقه، وربما لم تصدّق أيضاً كل تلك الإجراءات. ما زالت "قرارات ما بعد الكارثة" استهلاكية، غير مبنية على أسس. وطالما بقي التلفزيون عاجزاً عن نقل المباريات المصرية، فستظل التجمهرات الكروية الكبيرة مستمرة، وباستمرارها يزدهر بيزنس المقاهي وأسعارها غير المراقبة. هي فرصة كسب للمقاهي وفرصة عمل للبلطجية، ومناسبة حزن لأهل محمود ومن هم مثله، بينما تستمر المحطات التلفزيونية الرسمية الجديدة في مخاطبة اللا أحد.