الإستفتاء البريطاني المحسوم

شادي لويس
الأربعاء   2016/06/22
يتوجه الناخبون البريطانيون، الخميس، إلى صناديق الاقتراع، لتحديد مصير عضويتهم في الإتحاد الأوروبي، في الاستفتاء الذي جاء وفاءً لوعود حزب المحافظين في حملته الدعائية للانتخابات العامة الأخيرة. فصعود شعبية حزب الإستقلال البريطاني اليميني، الداعي للخروج من الإتحاد الأوروبي، على حساب المحافظين، دفع ديفيد كاميرون للوعد بطرح مسألة العضوية الأوروبية للأقتراع، وهو الأمر الذي نجح بالفعل في استعادة المحافظين للأصوات التي فقدوها في الانتخابات السابقة، والفوز بغالبية مطلقة مكّنت الحزب من تشكيل الحكومة الحالية منفرداً.

لكن مناورة كاميرون الانتخابية، مع نجاحها، لم تخلُ من مقامرة غير مأمونة العواقب. فبالرغم من توافق الإحزاب الثلاثة الكبرى، بالإضافة للمؤسسات المالية، وقطاع الأعمال والإستثمارات، والمؤسسات الثقافية والفنية، ومعظم وسائل الإعلام الخاصة، وهيئات الدولة المستقلة بما فيها البنك المركزي الإنجليزي، بل وحتى فرق الدوري الإنجليزي لكرة القدم، على حض الناخبين بإلحاح على التصويت لصالح البقاء في الإتحاد الأوروبي، إلا أن استطلاعات الرأي، حتى أقل من أسبوعين من موعد الإقتراع، كشفت عن تقارب ميول الناخبين التصويتية، بل وحتى غلبة الأصوات الراغبة في الخروج من الإتحاد الأوروبي بنسبة 6 في المئة في أحد الاستطلاعات الأخيرة. 

تتباين حجج المعسكر الداعي للخروج من الإتحاد الأوروبي، بقدر تباين قواه المتنافرة، والتي تضم قيادات من حزب المحافظين، والقليل من أعضاء مجلس العموم من حزب العمال، وقطاعاً صغيراً من الرأسماليين والصحافة اليمينية، بالإضافة لحزب الإستقلال. فعلى المستوى السياسي والتنفيذي، يتم التحاجج بأن مؤسسات الاتحاد الأوروبي تديرها بيروقراطية بروكسل غير المنتخبة، والتي تتمتع بولاية على سياسات الدول الأعضاء وحكوماتها وبرلمانتها المنتخبة في نطاق السياسة المالية والبيئة والتشريع وحقوق الإنسان وغيرها. ولا يقتصر الأمر على إتهام البيروقراطية الأوروبية بلاديموقراطيتها، بل ينسحب إلى اتهامها بعدم الكفاءة، والهدر المالي، والأهم: عدم قدرتها على الحسم بسبب الخلافات الداخلية المستمرة بين الدول الأعضاء. وبينما تبدو تلك الحجج غير كافية لتبرير الخروج من الإتحاد الأوروبي، بقدر العمل على إصلاح مؤسساته، إلا أنها تمنح الحجج الأخرى ذات الميل القومي اليميني الفج، مسحة ديموقراطية معتدلة. تلعب الدعاية اليمينية على شعور بريطاني بالتفوق على الجيران القاريين، وميل تاريخي للانعزال عن الشعوب الأوروبية، يجد منطقاً جغرافياً لمنعة الجزيرة البريطانية وفرادتها.

وتوظف دعاية معسكر الخروج، ذلك الميل العام للمحاججة بأن الأسس الإيديولوجية للإتحاد الأوروبي، كالتنوع والتعايش والسلم الأوروبي، تتعارض في مثاليتها الطوباوية مع منطق "البداهة" البريطانية العملي والتنافسي، والذي أثبت دائماً رجاحته. لا يعدم معسكر الخروج خطاباً ديماغوجياً قومياً معادياً للأجانب والمهاجرين، يجد قبولاً شعبياً واسعاً حتي بين قطاعات من الناخبين الذين اعتادوا على التصويت لصالح حزب العمال بإخلاص، ويبرره تذمرهم من تدني الأجور وإرتفاع كلفة السكن بشكل حاد، الأمر الذي تم إرجاعه إلى ملايين الأوروبيين المقيمين في المملكة المتحدة ومنافستهم للبريطانيين في سوق التوظيف والعقارات.

وساهمت أزمة منطقة اليورو المتفاقمة، وموجات اللجوء للقارة الأوروبية خلال الأعوام القليلة الماضية، وتتابع الهجمات الإرهابية في كل فرنسا وبلجيكا، بالإضافة إلى ادعاءات بقرب انضمام تركيا للإتحاد الأوروبي، في تدعيم منطق التصويت لصالح الخروج بوصفه الفرصة الأخيرة للقفز من مستنقع الفوضى والعجز الأوروبي.

في المقابل، بدت مهمة معسكر البقاء أسهل، فالمخاوف الطبيعية المرتبطة بفكرة التغيير المفاجئ للوضع القائم تم تضخيمها من دون عناء شديد بحملة دعاية سلبية. وانخرطت مؤسسات الدولة والقطاع الخاص في ترويج سيناريوهات كابوسية في حال التصويت لصالح الخروج، لم تقتصر على تصور إنهيار كامل للاقتصاد البريطاني، بل وتهديد بضياع مكتسبات مضمونة بفعل تشريعات الإتحاد الأوروبي كحقوق الإنسان الأساسية وحقوق المرأة والعمال، بل وحتى التهديد المثير للضحك بحرب عالمية ثالثة في المستقبل. وفيما تم الترويج للإتحاد الأوروبي بوصفه قاطرة السلم الأوروبي، والنموذج الذي لا غنى عنه للتعايش والتنوع الثقافي، تم التأكيد أيضاً على أن عضويته هي الضامن "لبريطانيا أقوى"، قادرة على تأدية دور معتبر في الساحة الدولية بدعم جيرانها، بالإضافة لقدرتها على التأثير في الداخل الأوروبي.

دفع اغتيال عضو مجلس العموم البريطاني، جو كوكس، بالإضافة للهبوط الحاد في قيمة الجنيه الإسترليني وسوق الأسهم البريطانية، الأسبوع الماضي، إلى انقلاب في موازين استطلاعات الرأي، بفارق كبير لصالح البقاء في الإتحاد الأوروبي. ومع هذا، تظل نتيجة الاقتراع غير محسومة، لكن الأكيد أن الجدل المحموم حول الاستفتاء، أزاح الخطاب السياسي البريطاني بأكمله إلى اليمين. فالحجج القومية والشوفينية لم تقابلها سوى خطابات نيوليبرالية متمحورة على معدلات النمو الكلية والتوظيف ونجاعة منطق الاقتصاد الحر والسوق المفتوحة. وحجج "بريطانيا أقوى بمفردها" لم تقابلها سوى جدلية تستلهم المنطق الشوفيني نفسه: "بريطانيا أقوى في أوروبا".

وفي خضم ذلك الجدل بين اليمين وأقصى اليمين، فإن اليسار، وفي مقدمته حزب العمال، عجز عن إدراك أسباب هجر قطاع عريض له، من مؤيديه من أصحاب المداخيل المنخفضة وخاصة في معقله التاريخي، في الشمال الإنجليزي، وميلهم إلى التصويت لصالح الخروج. وفشل أيضاً في تحين فرصة استثنائية لطرح معضلة الإتحاد الأوروبي الأكثر جوهرية، ومنطق السوق الأوروبية المشتركة كمنظومة نيوليبرالية لا تعود تناقضاتها فقط إلى انتفاع اقتصاديات دول المركز الأوروبي وفي مقدمتها بريطانيا وألمانيا على حساب الأطراف الأقل تطوراً، كاليونان وإسبانيا والبرتغال ودول شرق أوروبا، بل والأهم أنها ترجع إلى مفارقة نمو معدلات الاقتصاد الكلّي في دول المركز، كبريطانيا، مع تدهور الظروف المعيشية والمداخيل لطبقاتها الأقل دخلاً في الوقت نفسه، مثلها مثل نظرائها في دول الأطراف. هكذا، يبدو أن نتيجة الاستفتاء قد حُسمت. فاليمين البريطاني، بأطيافه، سيخرج رابحاً، أياً كانت النتيجة، بينما يبدو اليسار البريطاني الخاسر الأكبر في كل الأحوال.