السلع الاستفزازية

محمد خير
السبت   2016/12/03
هو الخميس المعتاد، أو على وجه الدقة هو "بعد ظهر الخميس" المعتاد، الذي تفضّل الحكومة المصرية أن تتخذ فيه القرارات الاقتصادية الصعبة. فالصباح التالي إجازة الجمعة، والذي يليه سبت وهو إجازة كذلك عند غالبية العاملين والمدارس، أما الأحد فهو بداية الأسبوع لكنه إجازة الأسواق. وهكذا، حين يأتي يوم الإثنين، ذروة الزحام وتلاقي "قوى الشعب العاملة" في الشوارع والمواصلات والأسواق، يكون القرار الصعب قد صار تاريخاً، ويكون الغضب قد استهلك نفسه عبر ليلتين من النوم في البيوت والشجار في مواقع التواصل الاجتماعي.. "تِبات نار.. تصبح رماد"، كما يقول المثل الشعبي، ويكتئب الناس في انتظار خميس جديد.

يوم الخميس الثامن من سبتمبرأيلول، قررت الحكومة بدء تطبيق ضريبة "القيمة المضافة"، التي زيدت على قيمة "ضريبة المبيعات" وامتدت إلى عشرات السلع. ويوم الخميس الثالث من نوفمبر، أعلنت الحكومة "تعويم الجنيه" ليفقد أكثر من نصف قيمته، ولم تنته ليلة الخميس نفسه حتى رفعت سعر المحروقات. أما في الخميس الأول من ديسمبر كانون الاول، فصدر القرار الجمهوري بزيادة التعرفة الجمركية على قائمة هائلة من السلع. طاولت 364 سلعة، ولم تكن تلك -كرفع المحروقات- من التبعات البديهية لتعويم العملة، إذ وعلى العكس من الثمن النقدي الثابت للمحروقات، والذي كان من الطبيعي رفعه إذا انخفضت قيمة العملة، فإن التعرفة الجمركية تُحدّد بناء على "نسبة" من الثمن، أي أنها تزيد بالضرورة مع زيادة السعر، ولم يكن من داع إلزامي لرفعها، وهو ما جرت محاولة التخفيف من أثره باستخدام لفظ بالٍ من تراث الحقبة الاشتراكية، هو "السلع الاستفزازية".

آنذاك، أيام الاشتراكية وحلم التصنيع والتنمية الذاتية، كان المواطنون يلبسون ويأكلون ويستخدمون ويركبون سلعاً من إنتاج الوطن، أو من "تجميعه" على الأقل. كانت أسماء "باتا" وصيدناوي وعمر أفندي والنصر للسيارات وغزل المحلة وغيرها هي المهيمنة على "السوق". كان الاستيراد شحيحاً، ويتم بداية عبر التهريب وما يسمى "تجار الشنطة"، قبل أن يكتسب دفعة رسمية مع الانفتاح الساداتي. وحين بدا أن ذلك الانفتاح لم يجلب سوى "تجار الهوا" وهواة الربح السريع، والمتخصصين في السلع الترفيهية، نشأت عبارة "السلع الاستفزازية"، التي تعني أن التجار "الأشرار" يستخدمون "العملة الصعبة- الدولار بالأساس" لاستيراد سلع "غير ضرورية"، سلع استهلاكية لا تساهم في الإنتاج، و"تستفز الكادحين". هي لغة تعود برمّتها إلى عصر آخر، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه فقد انتهى منذ أمد طويل، انتهى منذ بدأت "الخصخصة" وبيع القطاع العام وانتهى "التعيين " في الحكومة التي صارت تردد في كل مناسبة إنها "ليست بابا وماما"، وامتدت رغبات أنصارها من التخلي نهائياً عن الدعم إلى الرغبة في التخلي حتى عن مجانية التعليم والعلاج.

وعلى علات كل منهما، صار النظام الاقتصادي يسعى منذ عقود إلى "السوق الحر" ويعتبر أن "القطاع الخاص قاطرة التنمية"، ويشجع اقتصاد الخدمات، اقتصاد الفنادق والمطاعم والاتصالات. ثم فجأة، وعلى حين غرة، عاد فجأة إلى وصف السلع التي تستخدمها الطبقة الوسطى، طبقة القطاع الخاص، بأنها سلع استفزازية. وكأن مصر ما زالت محكومة بواسطة "الاتحاد الاشتراكي"، ما حدا بأحد مستخدمي التواصل الاجتماعي أن يستنكر تلك الرغبة الغريبة، التي تريد من المواطن أن يعمل لساعات عمل طويلة بقوانين الرأسمالية التي لا ترحم، وفي الوقت ذاته، أن يحيا، من جهة السلع والخدمات، حياة اشتراكية قاسية!

وبالطبع، فإن كلمة "استفزازية" لم ترد في القرار المنشور في الجريدة الرسمية، لكنها ظهرت- كأنما من لا مكان- في تغطيات الصحف الأولى التي نشرت الخبر، كأنما طلب شخص ما من تلك الصحف أن تحشر "الاستفزازية" في الخبر. لكن ترتيب السلع الواردة في القرار، أراد أن يوحي بذلك من دون أن يذكره حرفياً. فتبدأ القائمة بأنواع خاصة مستوردة من الفواكه غير الدارجة مصرياً، كالأناناس والأفوكادو وموز الجنة. وكلما نزل قارئ إلى أسفل القائمة، وجد أن السلع تصير أكثر عادية. فها هي أدوات المطبخ، مزيلات العرق، لعب الأطفال، الأحذية الرياضية، ثم ها هي الثلاجات وسخانات المياه وأجهزة استقبال الساتلايت. ويستمر القارئ في قراءة القائمة ليزداد استفزازاً، حتى تصطدم عيناه في القائمة بالأقلام، أقلام الجاف وأقلام الرصاص. لا يندهش كثيرون، فثمة حكومات لا يستفزها شيء بقدر الأقلام.