أخطاء الأسد القاتلة

دلال البزري
الأحد   2016/12/18

يسترسل معلّقو الثورة والمعارضة في نقدها والبحث في أخطائها. ولهم في ذلك ملء الحق. خصوصاً إذا كان قصدهم الواضح إعادة إحياء مشروعها، مع الضربة التي تلقتها في حلب؛ وقد خرج منها بشار الأسد متأملاً بالتاريخ، ومقارناً "إنتصاره" بظهور السيد المسيح، والرسول محمد وإنهيار الإتحاد السوفياتي... الإنقضاض على الثورة الآن، لا تضاهيه تلك الإنتعاشة التي حوّلت كلام الأسد وداعميه إلى زبْدة الحكمة التاريخية وبُعد النظر والحسابات الإستراتيجية العبقرية.

المعارضة إرتكبت أخطاء، هذا صحيح. ولكن هزيمتها الراهنة تسمح بحجب أخطاء خصمها، الأسد؛ والتي لا يُنظر إليها من شدة وهج "إنتصاره". قد تكون النقطة الوحيدة التي تفوّق فيها هذا الأخير على خصومه، هي حظه السياسي: فبخلاف المعارضة التي خذلها أصدقاؤها، حظي بشار الأسد بأصدقاء أوفياء أقوياء حازمين، لهم أجندات جدّية، فوق أنه يتربّع الآن على عرشهم "أقوى رجل في العالم"،  فلاديمير بوتين، بسلاحه وصواريخه وأسطوله؛ وقد تمدّد على بقع جغرافية وسعت من دائرة "المجال الحيوي الروسي" بما يتجاوز حدود الإتحاد السوفياتي السابق.

ما عدا ذلك، فإن بشار الأسد إرتكب، بعد جرائمه المريعة، خمسة أخطاء قاتلة له، لسوريا وللسوريين:

فقد حوَّل سوريا الى أرض مخترَقة إقليميا ودولياً. على ربوعها يقرّر الروس والإيرانيون وجهة المعركة وينفذون خطواتها. منافسوهم من خليجيين وأميركيين وأتراك، الذين لم يلتزموا، أو لم يستطيعوا الإلتزام بالدعم العسكري الكافي لقوى المعارضة المختلفة، دخلوا هم أيضاً في معارك وكانت لهم قراراتهم. ولكنهم كانوا أقل ثباتاً وتصميماً من منافسيهم. كان بوسع الأسد ان يجنّب وقوع سوريا في أتون هيمنة جيوش روسية وميليشيات و"حراس ثورة" إيرانية، والقواعد العسكرية غير السورية، لو إهتدى في أول الطريق إلى الحوار والتسوية مع المواطنين السوريين المطالبين بالحق الأدنى من حقوقهم.

خرج الأسد عن جلده القومي العربي نهائياً، مرة لأنه ارتضى بقوى معادية للعرب ان تحكم قراراته، ومرة لأنه ترك للروس مهمة تنظيم الصراع مع الإسرائيليين، بالطريقة التي يرونها مطابقة لمصالحهم. الأوهام القائلة بأن بوتين وخامنئي، الذين لا يملكون حساً عروبياً أو إسلاميا أو علمانيا، أو حتى ديموقراطياً... وان هؤلاء سوف ينقذون سوريا... هذه أوهام لا تصمد أمام أية صورة عن سوريا اليوم، مهما تعمّق الناظر إليها.

ثم أن  دور الأسد صادره مسلحون تكفيريون مذهبيون قادمون من شتى بقع الأرض: لبنان، باكستان، افغانستان، الشيشان، روسيا. فضلاً عن "لجان الأحياء" المتقاتلة على إمارات سرقة ونهب وابتزاز واغتصاب؛ وجلّهم يقتل بشغف الذين يعتقدون بأنهم بذلك إنما يدافعون عن مذهبهم الذي سرقه المذهب الآخر منذ ألف وخمسمئة سنة.

وبعد ذلك، يعلن بشار الأسد بأنه، بالسلاح فقط، يحافظ على سوريا. يؤمن في أعماقه بأن السلاح وحده سوف ينقذ كرسيّه. أي انه مقتنع الآن بأنه هو حاكم سوريا. يقوم بالدور المُناط به، حتى هذه اللحظة، بأفضل ما يمكن، إعلامياً. ولكنه في يومياته يعلم بأنه لم يَعد حاكماً لسوريا، إنما دمية بين أيادي "أصدقائه"، ينسف يومياً ما أحرزته سوريا بعد تحرّرها من الإستعمار الفرنسي، أي الأستقلال والسيادة الوطنيَين. ومعركة السوريين القادمة ضد إحتلال المليشيات المذهبية بالقبضة الروسية سوف تكون أعتى من سابقتها.

أخيراً، خطاب الأسد وأصدقائه الأوفياء، هو انه يقتل كل هذا القتل، من أجل القضاء على الإرهاب. وفضلاً عن كون الإرهاب هو، بوجه من أوجهه، وليد إطلاق سراح الإرهابيين من سجونه، وهو لا يقتصر على "داعش" و"النصرة" وحدهما، بل يمتد إلى الميليشيات المذهبية المعادية للثورة؛ فان كذبة محاربة الإرهاب، تتجلّى ساطعة، في سقوط تدمر بيد "داعش"، مباشرة بعد إنتصار بشار على "إرهابيي حلب". والإرهاب بعد ذلك سوف يتعمْلق، وسوف يضجر بشار في عقم كذبته. وبهذا أيضا يكون قد أرسى لأسس المصائب المقبلة على سوريا.

إعتقد بشار، بذكائه الجهنمي الموروث، بأن إطلاقه النار على مواطنيه المنتفضين سوف يوقعهم في فخّ محْكم: فخْ العسْكرة والتطْييف والتدخل الخارجي. افتتان المعارضة بهذا الثلاثي أوقعها في الأخطاء القاتلة نفسها التي اعتورَته. بشار صنع المعارضة على صورته، فتحولت سوريا إلى جهنّم البلاد والعباد. والآن بعد "إنتصاره" على حلب، لا مجال لتصحيح ولو جزء من هذه الأخطاء. وهو لمجرّد وجوده، هكذا، على كرسي الرئاسة، بلا محاسبة على كل جرائمه، يجعل هذا التصحيح مستحيلاً، وأخطاءه عاصية على الحل. فيما خصومه لهم كل المستقبل أمامهم.