ترامب: الشعبوية على رأس الديموقراطية

أحمد مغربي
الجمعة   2016/11/11

هناك صورتان لفهم زلزال ترامب: بوتين وبيرني ساندرز.

ترامب الشعبوي هو تحدٍّ أخير للديموقراطية، بالتجدّد أو التبدّل؛ وهو صورة النظام الدولي الجديد "المتشابك".

وهناك شقّان في الجملة السابقة، يحملان تحدّيين للتفكير في فوز المرشح الشعبوي دونالد ترامب، بالرئاسة الأميركيّة. يتمثّل التحدّي الأول في التفاعل الاجتماعي العميق الذي أوصل ممثلاً للشعبويّة المعاصرة الصاعدة غرباً (وبمساندة هائلة من العالم الافتراضي، خصوصاً السوشال ميديا)، في دولة هي حصن مكين للديموقراطيّة الغربيّة، وهي الصورة الأشد ألقاً للحداثة الغربيّة ومشروعها التاريخي. أليس لافتاً أن تكون معاداة العولمة خيطاً قويّاً لحملة رئيس، في البلد الذي صنع العولمة ونشرها؟ أليس من دلالة في حزب شعبوي يميني في فرنسا يرفق تهنئة ترامب بهتاف الانتصار على "العولمة المتوحشة"؟ الأرجح أن صورة المرشح الاشتراكي على الطريقة الأوروبيّة، بيرني ساندرز، تؤشّر على ذلك التحدي الذي سار في شوارع أميركا عقب انتصار ترامب.

ويتمثّل التحدّي الثاني في التفكير في ترامب نفسه باعتباره "عين" النظام الدولي المتشابك الذي ترعاه حاضراً مجموعة قوى، تتصدّرها الولايات المتحدة، كدولة كبرى، لكنها لم تعد القطب الأوحد المتحكّم في النظام الدولي. واستطراداً، هناك صعود القطب الروسي الذي يمثّل قوّة دوليّة لكنه لا يستطيع (إلى الآن) الوصول إلى وزن الدولة الكبرى. وتمثل الصين قطباً صاعداً أيضاً. ثم تأتي أوروبا التي تعاني اضطراباً منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي! وأضاف ذلك الاضطراب بُعداً آخر للتبدّل (بالأحرى، التقلّص) في قوة الولايات المتحدة، وهو ما حضر لدى ترامب في شعار "استعادة عظمة أميركا".

رفض المؤسّسة السياسيّة
في الحملة الانتخابيّة الأميركيّة، كان هناك خيط مشترك بين ترامب الشعبوي اليميني المتطرف، ونقيضه الأكثر حدّة، أي الأستاذ الجامعي والسياسي الاشتراكي بيرني ساندرز. جمع بين النقيضين رفضهما الواضح للمؤسسة السياسيّة الأميركيّة التي تدير الديموقراطية في البلاد. وأشار كلاهما إليها غالباً بإسم "واشنطن" باعتبارها العاصمة ومقر المؤسّسات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة والعسكريّة والاستخباراتيّة... واختصاراً، مركز "الإستابلشمنت" أو المؤسّسة السياسيّة ككل والتي يستكملها شارع المال "وول ستريت". ويلاحظ أن الولايتين اللتين تضمان "الإستابلشمنت" والمال، صوّتتا لهيلاري كلينتون التي كانت خصماً مريراً لساندرز وترامب سويّة!

الأرجح أن تلك الصورة المتناقضة تصلح مدخلاً لفهم ما يسود شبه توافق على وصفه بالانقسام. إنه أبعد من صورة الانقسام على الهويّات التي برزت في فوزين متعاقبين لباراك أوباما، وهزّها اختراق البُعد الاجتماعي لانقسامات الهويّة في فوز ترامب. صوّتت ولايات "بيضاء" كثيرة لمصلحة كلينتون (خصوصاً ولايات الساحل الشرقي، وماساتشوستس، وكاليفورنيا طبعاً)، وامتنع جزء واسع من ذوي الأصول الأميركية اللاتينيّة، عن التصويت لها، بل حتى قسم من الأفارقة الأميركيّين. ولم تفز في ولاية ميتشيغن التي اكتسحها أوباما ليس فقط بسبب تأييد مفترض من هويات شرق أوسطية.

وفي ولايات كثيرة، صوّت "أصحاب الياقات الزرق" (كناية أميركيّة عن العمال من البيض وغيرهم) لمصلحة الملياردير المترف، لأنه أغراهم بوعد غريب: مقاومة العولمة! أدّت العولمة إلى هجرة صناعات وشركات إلى آسيا، وبدت الأيدي المتدفقة من الخارج أيضاً مع الانفتاح المعولم، كأنها تنافسهم على أعمالهم، رغم أن أميركا هي صانعة العولمة وقلبها. واستكمل ذلك مع التوسّع في الأتمتة في بلد يحتل المرتبة الأولى في تحوّل الصناعة من العمالة الكثيفة إلى الروبوتات الصناعيّة.

نعم. حملت أصوات "البروليتاريا"، إلى سدة السلطة، مليارديراً رأس مالياً متطرفاً ينادي بالاستثمار المنفلت حتى من الضرائب العادية. وحمل المزاج نفسه والذائقة نفسها مرشحاً يساريّاً، هو بيرني ساندرز، ينادي بضرورة هجران النمط النيوليبرالي المرافق للعولمة المتوحشة، والانتقال إلى نمط قريب من إشتراكية البلدان الاسكندنافيّة.

هتلر وستالين ليسا ترامب وبوتين
على خلفيّة ذلك الحراك الاجتماعي، يمكن التقاط طرف الخيط في تحوّل تاريخي تعيشه الديموقراطية الغربيّة. وللمرّة الثانية في تاريخها المعاصر، هناك موجة شعبويّة كاسحة تتحدّى التوازن في التمثيل الذي يقف في قلب الديموقراطية، مع تذكّر مزاج شعبوي واسع وصاعد في أوروبا أيضاً.

كانت المرّة الأولى، تلك الشبعويّة الكاسحة التي حملت هتلر النازي، وموسوليني الفاشي، وأنطونيو سالازار في البرتغال، والجنرال فرانكو في إسبانيا. وآنذاك، انساقت "الطبقة العاملة" مع تلك الموجة الجارفة، التي صوّتت ديموقراطيّاً لمصلحة تلك الفاشيات المتطرفة، وهو تناقض لم تصمد حياله الديموقراطية، بل لم تُنقَذ منه إلا بحرب عالميّة طاحنة. وآنذاك أيضاً، وقع مثقفون ومفكرون بقامات عالية، من وزن الفيلسوف مارتن هايدغر، في التنظير للهويات مع قلة التنبّه إلى عمق الأزمة الطاحنة التي كانت تكتسح الغرب، لا سيما أميركا. وآنذاك، جاءت تلك الموجة، عقب "الكساد الكبير" الذي رفع أيضاً آمالاً يساريّة (خبت سريعاً، لكن مع مأساة في الحرب الإسبانيّة التي تُذكّر سوريا ببعض ملامحها)، ونسجت حلفاً لم يدم طويلاً بين هتلر و... ستالين.

ربما يرى البعض في "حلف" ترامب- بوتين ظلاً من ذلك، لأن التشبيه في صور التاريخ سهل، لكنه مخادع أيضاً. في المقابل، ربما الأهم هو أن أزمة الاقتصاد العالمي العاتية، والتي يسود شبه إجماع على عدم الخروج منها إلى الآن، هي في خلفية التحوّل الجاري في أميركا.

وفي أعقاب أزمة الاقتصاد، العام 2008، جاء أوباما واعداً بحل لمصلحة المهمشين والمطحونين، لكنه لم ينجح في تحقيق وعده. أبعد من ذلك، اختتم عهده على صرخات مرتفعة في أوساط الشباب من الهويّات كافة، بالشكوى من الزيادة المذهلة في التفاوت في المداخيل. ويعني ذلك أن المؤسّسة الديموقراطيّة لم تستطع حل مشكلة التفاوت الاجتماعي، بل إن مجلة من قلب تلك المؤسّسة، هي "فورين أفيرز" الناطقة بلسان "مجلس العلاقات الخارجية"، وصفت ذلك بأنه تهديد للحلم الأميركي ووعوده ونموذجه.

وإذ ندد ساندرز بتمركز ثروة البلاد الطائلة في أيدي أقل من 1% (بل ربما 0.25 في المئة، وفق أرقام وردت في مجلتي "تايم" و"فورين آفيرز" خلال السنتين الماضيتين)، اكتسب شعبية غير متوقعة بين الشباب، وهو عجوز سبعيني يسير محني الظهر.

أصل الانقسام
في سياق الحملة الانتخابيّة، برز احتمال مهم لأن يكون ساندرز مرشح الحزب الديموقراطي. وهزمته هيلاري كلينتون. لكن تسريبات "ويكليليكس" أظهرت أن الإدارة العليا في الحزب الديموقراطي، حيث يحظى زوجها الرئيس السابق بيل كلينتون بحظوة كبيرة، انحازت إلى هيلاري بصورة مكشوفة.

وأضاف ذلك الأمر دليلاً آخر على فساد النُخَب الحاكمة في المؤسّسة الديموقراطيّة، إضافة إلى عجزها. الأرجح أن ذلك الانقسام بين كتل أساسيّة في المجتمع (بميول غير وسطيّة بين ترامب وساندرز)، وبين المؤسّسة السياسية في النظام الديموقراطي الأميركي، هو جذر الانقسام الذي تحدّث عنه الجميع بعد فوز ترامب الشعبوي. ويوصف ترامب بالشعبوي لأسباب تتضمّن أنه أتى من خارج المؤسّسة السياسيّة التقليديّة، وهو أمر ينطبق على ساندرز الذي يتفارق عنه بأنه جاء من حزب، لكن حزبه لا ينتمي إلى تقاليد المؤسّسة السياسيّة في أميركا.

مع ذلك الشرخ بين جمهور واسع وبين "واشنطن"، انكسرت توازنات كثيرة، وتحطّمت صمّامات أمان كثيرة أيضاً. وانفلت كل ما يجدر بالديموقراطية أن تحتضنه وتستوعبه، واتّجه إلى الشارع مباشرة.

فاز ترامب، وسلّمت المؤسّسة السياسيّة بفوزه، عبر هيلاري وأوباما. ربما يعطي ذلك انطباعاً بأن الديموقراطية استوعبت "الشعبويّة الجديدة". لكن، هل تستطيع الديموقراطية العمل مع وجود شعبوي على رأس السلطة فيها؟ كيف سيتعامل ترامب مع الشرخ بين الجمهور الذي أوصله إلى رأس السلطة الديموقراطية، وبين المؤسسة السياسيّة التي تدير الديموقراطية؟ كيف سيدير صراعه يميناً مع "الياقات الزرق"، ويساراً مع الشباب المنادي بمزيد من العولمة شرط أن تكون عادلة؟ كيف سيجري التفاعل بين الشعبويات الصاعدة في أوروبا، وبين مجريات الصراع بين الشعبويّة والديموقراطية في أميركا؟