النووي بين السَكْرة والفَكرة

دلال البزري
الخميس   2015/07/30

جماعة إيران من بين العرب أسكرتهم نغمة المفاوضات النووية بين الغرب وايران، استعجلوا خاتمتها المظفرة، ضربوا طبول العظمة الإيرانية، قارنوها بانحطاط العرب وجدّتهم في شؤون الامم؛ نسوا انفسهم، انهم عرباً، أول المعنيين بهذا الإنحطاط.

لكن الفَكرة آتية، ولو بعد حين:

فالاتفاق، أولا، بحسب البروبغندا المعتمدة لدى أطرافه، غرضه الأساسي تجنّب الحرب وإقامة سلام في الشرق الاوسط. "من دون الاتفاق" يقول الأميركيون، ومعهم الإيرانيون "كانت ستكون حرباً شعواء، ونحن أنجزناه لأننا نريد السلام". ولكن، حتى قبل ان يجفّ حبر الإتفاق، كان الجميع من عرب وغير عرب، يريد ان يردّ عليه بصفته اتفاقاً يمنح ايران، ولو بعد حين، سلاحا نوويا شرعيا، أكثر شرعية من النووي الاسرائيلي نفسه. فوجب الردّ عليه بالمزيد من التسلح بالنووي وغير النووي، ولسان الصديق والعدو يقول: "الى السلاح درّ".

الإتفاق، من جهة أخرى، يردّد الكورس الإيراني الأميركي، هدفه السامي الآخر هو "محاربة الإرهاب"، المتمثل بـ"داعش". ولكن حصل في الأيام الأخيرة، ما ينسف هذه النغمة من أساسها: دخول تركيا على خط الحرب ضد الإرهاب نفسه. بل أكثر من ذلك: بعد هذا الدخول، يكشف لنا الآتراك بأن الأميركيين كانوا يتفاوضون معهم لحثهم على الإنخراط في هذه الحرب. هكذا، قدم الأتراك أوراق اعتمادهم إلى الأميركيين، كسروا الإحتكار الإيراني للحرب على الإرهاب، وفوق كل ذلك، مع شرطهم الاساسي، من أن يضم هذا "الارهاب" الكرد، واحزابهم. وها هم يحذون حذو ايران، فيعلن رئيسهم انهم بصدد تدريب خمسة آلاف سوري تركماني يقاتلون نيابة عن جيشهم في سوريا...

الإتفاق، ثالثاً، هو محور سجال، يتراوح بين نقيضين: واحد يقول بأنه جعل أميركا "تركع"، والآخر يصرخ بأنه منحها مفاتيح السيادة والإستقلال الإيرانيَين. ونحن لا نستطيع ان نجزم بالوجهة الدقيقة للإتفاق، فنهتدي بالسوابق: الصين الشيوعية بعد انفتاحها على أميركا عام 1972، احتفظت بطبقتها الشيوعية الحاكمة، واعتمدت النظام الاقتصادي الرأسمالي المعوْلم. المؤكد ان حافز الإيرانيين للمفاوضة مع الأميركيين كان إنقاذ نظامهم السياسي، بعد انتفاضة حزيران 2009 واندلاع الثورات العربية، واختناق اقتصادهم بالعقوبات. فهل يكون مصير الإيرانيين كالصينيين؟ أن يبقى نظامهم "الاسلامي" على إستبداديته وفساده وامتيازاته، شرط ان يفتح أسواقه الواقعية للغرب و"يتعاون معه في المسائل الإقليمية"؟ أم يهتدون بكوريا الشمالية، التي وقعت اتفاقاً مماثلا مع أميركا، وعادت إلى قنبلتها النووية بعد ذلك بتسع سنوات؟ أم ينهار النظام الإيراني، كما حصل مع السوفياتي، فمشت من بعده روسيا على خطى الصين الرأسمالية، من دون واجهتها "الشيوعية"، إلا لخدمة سلطة رئيسها المطلقة؟

الإتفاق أخيراً ينهي الإحتكار الإسرائيلي للسلاح النووي في المنطقة؛ والإحتفاء به يكشف للمرة الألف، ان كراهية إيران لإسرائيل لا علاقة لها بحبها للفلسطينيين، ولا يرافقها التزام بحقوق الفلسطينيين؛ إنما لها علاقة بتنافسها مع اسرائيل حول السيطرة على أقدارنا. أثناء احتفالات "المقاومين" بالإنتصار النووي هذا، كان ثلاثمئة متطرف يهودي يقتحمون مسجد الأقصى، ويطردون المصلين المسلمين منه، وبدعم من الشرطة. لم يلقِ "منتصرونا النوويون" هؤلاء، المنشغلون ببهجتهم، حتى ولو نظرة تعاطف إنسانية واحدة مع أولئك الفلسطينيين، بعدما استهلكوا قضيتهم حتى الثمالة.

"الصمود الإيراني"، هو تفسيرهم الوحيد للإتفاق النووي. قالوا بأن الايراني هو الأجدر بثقة الغرب، لأنه هو الأقوى والأكثر تسلحاً وتنظيماً، فعادت إليه مهمة الشرطة الإقليمية. وهذه "حالة" تعيدنا الى ما يشبهها، إلى اليابان، حيث لا وجود لـ"صمود": فالبرلمان الياباني هو الآن بصدد التوقيع على سلّة من القوانين تسمح له بتغيير الدستور الذي يحرِّم العسْكرة، بحيث تتحول بلادهم شيئاً فشيئاً الى دولة "طبيعية"، لها جيش قوي، ترسله إلى حيث ترى دفاعا عن سيادتها وأرضها. الدستور "السلمي" السابق وُضع في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبضغط أميركي خاص، بعد هزيمة اليابان في هذه الحرب. والترحيب الأميركي الآن بالعسْكرة اليابانية، بل الضغط الاميركي للعودة اليها، تفسرهما رغبة أميركا بوجود تحالف من الدول المجاورة للصين، المعرّضة لتوسعيتها، تدافع عن بنفسها بجيوشها الخاصة، من دون الحاجة الى تدخل عسكري أميركي.

وفي الشرق الاوسط، الذي تنسحب منه أميركا اليوم، ليس "الشرطي" الإيراني سوى لباس مهلهل على دولة فقدت رؤيتها، ذات مصالح متناقضة اصلاً، وحائرة ماذا تفعل بـ"إنتصارها"، سليل إنتصار آخر، سبقها، باستراتيجيته وألوهيته وتاريخيته.