ناتاشا العرعورية

أحمد عمر
السبت   2015/11/28

قبل رحيل ناتاشا  إلى موطنها بلاد الثلج وقعت في الأسر!

في الأشهر الأولى، التي صارت سنوات براميل جمر لاحقاً، عشنا حقبة من العنف الحر الارتجالي،  تعتقل المخابرات متظاهراً غزالاً، وتجبره على الاعتراف أنه حمار، فيرفض، ويكون مصيره الموت تحت التعذيب، والشهيد سعيد الحظ من يموت باكراً، بصعقة كهرباء قوية  ترد الروح إلى بارئها، أو بالمثاقب بحثاً عن نفط الطاعة.. واشتدت عمليات الخطف بين  أحياء "دار الكفر"، وأحياء "دار الإسلام"، وكان من ذلك أن ناتاشا وقعت في أسر كتيبة أبو جاسم، وهو ضابط برتبة نقيب، فاحتار كيف يتصرف معها،  واجتمع قادة الكتيبة والإعلاميون المصاحبون، وهم ناشطون مبتدئون لا يفقهون شيئاً من الإعلام سوى الاتصال مع الفضائيات المتآمرة، وإبلاغهم بالمعلومات الخام، وكان معهم شيخ جامع الحي، وهو طالب شريعة في السنة الثالثة، ولا يعرف من الدين كثيراً، اللهم إلا  كفارات المعاصي، وأصواع الشعير في عيد الفطر،  وانقسموا بين  قائل بضرورة تحرير الأسيرة، لأن الحديث الصحيح نهى عن التعرض للنساء والأطفال في الحرب مع أعداء الإسلام،  وعن عباد الله المنقطعين للعبادة في الصوامع، وبين قائل بضرورة مبادلتها بين مخطوفين ومخطوفات، وهم بعشرات الآلاف، فادّخروها في أحد الدكاكين المبنية حديثاً الى حين الوصول إلى إجماع بشأنها.

وبحثوا عن حرة من الحرائر تقوم بحراستها، فلم يجدوا،  ووصف الحرائر أثار ثائرة الإعلام "النظامي"، فهو يجنّ من أي وصف يذكر بالتاريخ الإسلامي، فسخر من الوصف البائد، كما سخر من قبل من وصف" الوالي" التركي، فالوالي منصب متخلف حتى وإن كان منتخباً،  أما المحافظ المعين، فهو منصب حديث وعادل و"ديمخراطي".  النظام يؤمن تماماً أنّ المسالة هي مسالة أسماء، لا أعمال، فكلفوا جندياً منشقاً بحراستها، انشق مثل غيره هرباً من قتل أهله وناسه، وهو  في الثامنة عشرة من عمره، ويحبُّ أفلام الكوميديا، خاصة عادل إمام، والتدخين، ويحترم بلا حدود أوامر قادته إن لم يكن بقوة التقاليد الصارمة، فبقوة النظام الخارقة الذي كان يعلّم الجندي الطاعة لا غير، والشعب كله جند في ثكنة عسكرية كبيرة اسمها سورية.  الجندي يجرّد في الجندية "البعثية" من إنسانيته، ويحوَّل إلى كلب بافلوف الشهير، يسمع ويطيع  و...يهان، فالغرض من التدريب هو الاستعباد لا المقاومة والممانعة والجأش. الضابط غالباً واحد من التوتسي الجشعين الذي لا يرى أبعد من أمعائه، ويتاجر بقرارات الإجازة، ويبيعها بأسعار معروفة.  وهكذا وقف الجندي حارساً لناتاشا بعد أن ربط ساقها البيضاء بحبل عقل إلى أحد  أعمدة الدكان،  وبقي معها وحدها، بعد أن أمره قائده  بحسن رعايتها، فتركهما وثالثهما الشيطان، وهذا الشيطان غير الشيطان التقليدي، شيطان الحرس القديم، فهو مدرب ومثقف ببرامج "الريلتي" و"الشات" الأسود،  ومن يربح المليون وأفلام عادل إمام التي يظهر فيها جميعها فحلاً أوحد في  العالم العربي، وإمام النساء والرجال، والرجل الذي أوتي شطر الحُسن، ما أن تراه النساء حتى تخلع له ورقة التوت حتى يصنع منها كنزة من الحرير الوثير.  المجنّد كان يمكن أن يضحك مستلقياً على قفاه على فيلم عنتر شيال سيفه، وكأنه يراه للمرة الأولى..

دخّن المجند الشاب "كروزاً"  كاملا من الحمراء الطويلة جداً، لم يتوقف عن التدخين طول الليل،  كل سيجارة يشعلها من إست أختها المتوهجة، ويشهق ويزفر مثل تنين صغير أسير معذّب، وهو يحاول أن يلجم سيف عنترة الملتهب في غمده.  المسألة ثورة سورية، ونظام وليست نزوة في ليلة صيف..ولم يكن  يحتاج إلى إغراء، فهو في موقعه وعمره وغربته مثل التمساح الذي يمكن له أن يأكل أنثى بثيابها وحذائها وكعبها العالي، ثم يهتف: جوعاااااااااااااااااااااان. وهكذا اجتمع في مكان واحد: الشَّبَابُ، وهو شُعْبَةٌ مِنَ الْجُنُونِ، والنِّسَاءُ وهي ناتاشا بيضاء، وحِبَالَةُ الشَّيْطَانِ".

كان الجندي قد أخذ قراراً صعباً بالانشقاق، وخاض معارك مع النظام، وشهد ذبح ضابط مخابرات تنكَّر في زي عامل نظافة بالسكين، لكنه لم يعرف ليلة أقسى من تلك الليلة، وكان مع كل سيكارة جديدة، يطفئ السيكارة  المحتضرة بظهر يده، ثم وجد أنّ الأولى أن يحرق أماكن أكثر رقة من ظهر اليد، مثل البطن وضفاف سيف عنترة.. أسود صدر الغلام من النظر إلى فخذي ناتلشا البيضاويين المتلعين كسيفين من سيوف السامواري الطويلة، وكانت كتيبة أبو جاسم قد أعدت  لناتاشا فراشاً بسيطاً، وغطاء رقيقاً، فالوقت صيف. إسودَّ  صدر الغلام من رياح النيكوتين، وعواصف الحمراء الطويلة،  التي يعتقد كثيرون ( الكثيرون هم كاتب هذه السطور!) أنها أكبر  إنجازات الحركة التصحيحية، والأمر ليس كذلك فهو إدمان وألفة  لا أكثر، الأغلب أنّ دخان الحمراء الطويلة ثقيل، مثل دخان الايديولوجيا،  ويعترف  خبراء أنّ نظام أيلول الأسد  كان يصدّر تبوغ الحمراء الطويلة في علب  فاخرة إلى الخارج، كما  كان يفعل مع القمح السوري الفاخر، بينما يدّخر للشعب  قمحاً مسوِّساً، وتبن المزابل، والشعب السوري طيب ومغلول بآلاف الأغلال،  ولم يكن كذلك لولا حكم هذا الفدان كل هذه الفترة  الحمراء الدامية الطويلة .

عدّ الغلام نجوم السماء في تلك الليلة،  نجمة نجمة، وكوكباً  كوكباً.. الأمر الوحيد الذي كان يحفظه من بطش سيفه، سيف عنترة، هي التكبيرات التي كانت تعلو من البيوت، فالأحياء الثائرة استجابت لدعوة  شيخ فضائية "صفا" الشيخ العرعور بالتكبير، الذي كان يقضّ مضاجع الأحياء الموالية، فتأخذه نسمة باردة، ويلوي عنقه إلى ناتاشا المتمددة شبه عارية، ليس بينه وبينها سوى الشيطان. يغلي الجندي مثل عادل إمام في فيلم رجب على صفيح ساخن. فهو مثل كل إنسان مؤلف من مجموعة من العناصر هي خيلٌ وليلٌ وبيداءٌ وسيفٌ ورمحٌ وقرطاسٌ وقلمٌ.. تحولت كلها، في تلك الليلة  إلى سيف فقط، مسلول سلاً منكراً، والشيطان يلح عليه، ويطن مثل ذبابة الكلب وزيزان الصيف،  وكلاهما حشرتان لهما صندوق أقسى من صندوق العلجوم السلحفاة، ..  أطول ليلة قضاها الغلام في عمره، "أطول من قرن"  بتعيير جنكيز ايتماتوف،  هي تلك التي قضاها بجانب ذلك الجسد المسجى متقلباً في العتمة، وهو يتوهج مثل الفوسفور تحت شعاعي عينيه، ولسان حاله حال النابغة:  "تطاولَ حتى قلت ليس  بمنقضٍ.... وليس  الذي  يرعى النجوم  بآيب".   كانت نجومه كأنها شدت بجبل يذبل.

في صباح اليوم التالي كان حاجز الجيش الحر قد اعتقل أحد الموالين،  وهو يريد العبور بسيارته، دار الإسلام، فحققوا معه، وفحصوا حاسوبه المحمول، فوجدوا فيه  صوراً مذهبة ومقدسة لحافظ الأسد، ولم يكن الجيش الحر قد انتكس إلى فتاوى داعش الاستئصالية اللاحقة، فهو مواطن يحبُ الرئيس، وهذه ليست جريمة، وبعد ساعتين قررت المحكمة الشرعية العاجلة إطلاق سراحه، ثم قال له أبو جاسم: تعال خذ هذه السيدة معك.

 وأصدر أوامره، فأحضروا "سنو وايت" من الدكان،  وصدرها  كموج البحر أرخى سدوله  بأنواع  الحليب الجاف ليبتلي..

جاء الغلام  منهكا محمرّ العين، مسودّ الصدر، ديك منتوف الريش، ومبلبل الوجدان ومعه ناتاشا.  ركبت السيارة، ورحلت مع المنحبكجي. كشف المجند للضابط أبي جاسم عن ظهره ويديه وبطنه  الموشومة بآثار الحروق، فقال له:  كأنك خارج  لتوك من جحيم فرع أمن ..

فقال الغلام:  أقسم بربي وربكم ورب الأولين والآخرين، فرع فلسطين أرحم من بنت الحرام هذه.

ضحك الجميع وربتوا على كتفيه.. ثم ذهب إلى فراشه، ولم يستطع النوم، مع  أنّ النوم سلطان، لكنه سلطان ناعم وحلو ووثير، أما سلطان الأنثى، فهو ناعم أيضاً،  لكنه سلطان باطش  وحارق وحاد وقاطع، خاصة إذا كان عارياً من غمده مثل ناتاشا العرعورية.