العدالة الظالمة

دلال البزري
الإثنين   2014/03/31
حكمت محكمة المنيا بإعدام 529 إخوانياً أو متعاطفاً مع"الإخوان المسلمين"، بتهمة قتل مساعد ضابط شرطة، ومحاولة سرقة سلاح شرطيَين وقتلهما. وكان هؤلاء المواطنون قد تجمهروا وتظاهروا، مثلهم مثل بقية الإخوان أو المتعاطفين معهم، إحتجاجاً على المقتلة التي أطاحت اعتصامهم في ميدان "رابعة العدوية"، في آب الماضي، في قلب العاصمة، بعدما أسقط التحالف الإنتقالي الجديد بقيادة العسكر الرئيس الإخواني، في عملية سموها "ثورة ثانية"، وسمّاها خصومهم "إنقلاباً عسكرياً".

رئيس هذه المحكمة، القاضي سيد يوسف، ليس مبتدئاً في المهنة. خلفه تاريخ طويل من الأحكام "القراقوشية" ضد متهمين ينتمون الى "الاخوان المسلمين" خصوصاً. وحكمه هذا اتخذه بسرعة يومين فقط، متجاوزاً كل الإجراءات القانونية الروتينية، من نوع محاضر تحقيق مع المتهمين وأقوال شهود. قرر إعدام 529 شخصاً، والتهمة قتل شرطي وتهم أخرى لا تتجاوز عقوبتها السجن القليل. فيما لم ينل سوى شرطي واحد، عقوبة السجن عشر سنوات، بتهمة إطلاق النار على 37 متظاهراً... ناهيك عن العمليات التي أودت بحياة الآلاف من المصريين المتظاهرين أو المعتصمين أو المتجمهرين، من "إخوان" وغيرهم، على أيدي الشرطة والجيش. 
 
لكن القاضي سيد يوسف، على قساوته، لم يبلغ يوماً مبلغ هذه السابقة التاريخية، التي ستسجل في دفاتر الأرقام القياسية. واضح من حكمه أن شيئاً يغلي في جسم القضاة، وأن هذا الحكم يأتي في سياق معركة، يبدو هو الآن رأس حربتها. لكنها تكشف قليلا من طبيعة الديناميكية التي حركتهم. فصدر عن أقساهم ما يمكن اعتباره وجهاً من وجوه المعركة الدائرة الآن بينهم، كمؤسسة متحالفة مع العسكر، وبين "الإخوان المسلمين". 
 
القضاة المصريون بمثابة عشيرة، أو قُل "عصبية"، يتم التداول بين أجيالها على أساس الوراثة. فإبن القاضي قاضٍ، له الأولوية المطلقة، والمدعومة منذ الصغر، لتولي منصب أبيه بعد تقاعده. وهذه العشيرة لها امتيازات مادية غير عادية، فضلاً عن حصانة معنوية، وضعت أبناءها في مرتبة خاصة، منغلقة على نفسها، وتملك من الإنسجام ما يؤهلها للتحول إلى شيء يشبه "مجموعات المصالح"، صاحبة الأدوار المستقلة عن منطق الدولة، دولة القانون خصوصاً. عشية الثورة، كان القضاة، متجذرو العداء ضد "الإخوان المسلمين".. مع شيء من الاستقلالية، كانوا الداعمين الكبار لنظام مبارك، واضعين أولوية عدائهم للإخوان حجة مشروعة لهذا الدعم. 
 
عندما تسلم محمد مرسي ورفاقه السلطة، كان الجسم القضائي واحداً من استهدافاته. في الدستور الذي اقترحه مرسي، كانت بنود بأكملها تمس إمتيازات القضاة، وتضعهم تحت سلطة الرئيس. في الوقت عينه، كان الإخوان يحاولون ملء فراغ غربتهم عن هذا الجسم بإدخال المئات من أعضائهم إلى هذا الجسم. وقتها أضرب القضاة عن الإشراف على عمليات التصويت على هذا الدستور، واستبدلهم الإخوان بموظفي الدوائر الرسمية. خلال العام الواحد من حكم محمد مرسي، كانت أيادي القضاة على الزناد، وكانت ساحة معركتهم هي نفسها ساحة العسكر. فكان الإنقلاب أو الثورة الثانية، وقد أطلقت عملية "تطهير" داخل الجسم القضائي، أخرجت من صفوفها جميع الأعضاء الإخوان، أو المقربين منهم، وبتُهم مضحكة وهزيلة... لو قورنت بمئات الجرائم التي ارتكبها العسكر من جيش وشرطة. 
 
"الانقلاب"، منح القضاة طاقات إضافية. الدستور الجديد، "الشعبي"، الذي صاغه العسكر، حمى امتيازاتهم و"إستقلاليتهم" بأن منحهم الحق بالرقابة على أنفسهم، بالسيادة على أنفسهم. وفق هذا الدستور الجديد، باتت المحكمة الدستورية العليا هي المخولة إختيار رئيسها وأعضائها، فيما النائب العام يسميه المجلس الأعلى للقضاء، ولا يحق للهيئة التنفيذية إقالته.. الخ. هكذا، أغلقت "العصبية" القضائية على نفسها، باسم "إستقلال" القضاء: "إستقلال" يحوّله إلى دولة داخل الدولة، مثله مثل الجيش، له مصالح واعتبارات وتوجهات تخص عصبيته الخاصة: أي غنيمته وهويته وعقيدته، تخدمهم كلهم، وتتغنى بأنها "تخدم الشعب"، وتحارب من يهدده. 
 
سيد يوسف ليس قاضياً منفرداً في قسوته وإعتباطيته. انه طليعة العصبية القضائية التي تخوض الآن معركة وجودها ومصالحا وهويتها. باسم الحرب على الارهاب. تماماً مثل العسكر. لتنتج بذلك، بوضوح وثقة، ما يعرفه كلنا في هذا العالم العربي البائس: "عدالة" غير عادلة، عدالة ظالمة.