حيوانات القاهرة الأليفة

شادي لويس
الأربعاء   2014/03/26
في زيارتي الأخيرة للقاهرة, منتصف الشهر الجاري, أخبرتني الصديقة التي لم أرها منذ عامين أنها تجد صعوبة في النوم منذ شهور, بسبب نباح الكلاب ومواء القطط الأليفة التي يتسابق جيرانها في المبنى بمنطقة المعادي على اقتنائها مؤخراً. المعادي, الحي  الذي كان يعتبر واحداً من أهدأ أحياء العاصمة المصرية, حتى أفسده الوافدون الجدد. خلال الليالي العشر التالية، وفي طريق عودتي اليومية المعتادة إلى يت العائلة في "عزبة النخل",  تقاطع خط سيري مع شباب عشرينيين يقومون بجولاتهم الليلة المتأخرة في أزقة واحد من أفقر أحياء شرق القاهرة لتمشية كلابهم "البوليسية" (أي من سلالات أجنبية) والتي، لفرط تدريبها, لا تلتفت إلى ضجيج "التكاتك" ولا تحرشات كلاب الشوارع من حولها. وقبل مغادرتي القاهرة بيومين, اكتفى صديقي الطبيب البيطري, بالرد على سؤالي عن أحواله بالإشارة، في مزيج من رضى وتبرم، إلى أنه، منذ أواسط العام الماضي، مدّد ساعات العمل في عيادته الخاصة إلى ما بعد منتصف الليل, بسبب الإقبال المحموم من ربات بيوت ينتمين إلى قاع الطبقة الوسطى – بحسبه – على تطعيم قططهن المنزلية بل وتقليم مخالبها بشكل دوري.

تبدو ظاهرة الإقبال المضطرد على اقتناء الحيوانات الأليفة، خلال الشهور القليلة الماضية، أكثر وضوحاً في متاجر المدينة. فإضافة إلى افتتاح سلاسل تجارية عدة متخصصة في بيع الحيوانات الأليفة ومستلزماتها, أصبح الحصول على تنويعات مستوردة من الأطعمة الجافة والرطبة ونصف الجافة ونصف الرطبة، بنكهات مختلفة، للحيوانات الأليفة أكثر يسراً في المدينة التي يعيش أكثر من نصف سكانها حول خط الفقر أو تحته. وذلك بعدما انتشرت عبوات الماركات الأجنبية لتلك الأطعمة على رفوف محلات ومراكز تجارية صغيرة في العديد من أحياء القاهرة، بينما اقتصرت في الماضي على عدد محدود من سلاسل المراكز التجارية الضخمة.
 
تنسب العلوم الاجتماعية المعنية بدراسة العلاقات الإنسانية- الحيوانية، ظاهرة اقتناء الحيوانات في نطاق استهلاكي واسع في الغرب، إلى أغراض غير الإنتاج الزراعي أو النقل أو الحراسة أو القتال أو الصيد، إلى مرحلة "ما بعد الاستئناس" المرتبطة ببزوغ النظام الرأسمالي والوفرة التي حققها لطبقات بعينها, قادت إلى تسليع الحيوانات الأليفة والخدمات المرتبطة بها وتحويلها إلى منتج استهلاكي يدلّ إلى الانتماء الطبقي، بل وأصبحت رأسمالا ثقافيا مرتبطا بموقع المستهلك في التراتبية الاجتماعية. وبينما يرجع انتشار الظاهرة في دول العالم الثالث، بنمطها الاستهلاكي الغربي، إلى مظهر من مظاهر التبعية وعولمة ثقافة الاستهلاك الرأسمالية وقيمها الاجتماعية, إلا أن هذا التفسير غير كاف لتبرير الانتشار المفاجئ لتلك الظاهرة في القاهرة خلال الشهور القليلة الماضية, في حين يعاني الاقتصاد المصري أشد أزماته.

على الجانب الآخر, يفسر بعض مدارس علم النفس، ظاهرة اقتناء الحيوانات الأليفة، كواحدة من تبعات الحداثة وما تحمله من  تفكك للعلاقات الاجتماعية التقليدية، كالعائلة والجماعة الدينية والقومية, ومن ثم اغتراب الفرد وشعوره العميق بالعجز والوحدة. وفي هذا السياق، لا يتحول الحيوان الأليف فرداً من الأسرة أو بديلاً عنها وعن الجماعة الاجتماعية المأزومة فحسب, بل يمسي مركزاً لما تشير اليه تلك النظريات بـ"النظام المنضبط", يستطيع من خلاله الفرد استعادة توازنه النفسي بممارسة قدر من السيطرة الرمزية والرعائية على الحيوان الأليف المعتمد على صاحبه بشكل كامل.

يبدو أن تبعات أعوام ثلاثة من الصراعات الدموية والتحولات السياسية شديدة الحدة في مصر, قادت إلى كشف عمق الأزمات والانقسام الأهلي المسكوت عنه، والذي ما زال بلا حل. وفوق كل شيء، كشف شعوراً عاماً وعميقاً بالعجز, تتراوح ظواهره بين الاستسلام الكامل أو اليأس, ما قاد قطاعات من المجتمع المصري، على الأرجح، إلى محاولة استعادة توازنها النفسي عبر اقتناء الحيوانات الأليفة، وربما في سعي أيضا إلى تأكيد موقع طبقي أو الصعود رمزياً على درجات تراتبيته في ظل أوضاع تهدد استقرار تلك المنظومة الطبقية.

يذكّر المشهد أعلاه ببحث نشرته الرابطة الأميركية لعلم الاجتماع، العام الماضي، بيّنت نتائجه أن المشتركين في الدراسة من البالغين الأميركيين أظهروا قدراً من التعاطف اتجاه كلب مصاب، كان أعمق بكثير مما أظهروه تجاه رجال ونساء بل وأطفال من المصابين. يبدو أن المصريين أيضاً قادرون على إظهار قدر من الرأفة اتجاه حيواناتهم الأليفة, في حين يقتل بعضهم بعضاً في الشوارع. فهل يحاول سكان القاهرة استعادة إنسانيتهم بحيواناتهم الأليفة.. أم أنهم يتخلصون مما تبقى لديهم منها؟