عار الرقص الشرقي... وفنّ الباليه

نور عويتي
السبت   2024/03/30
سلافة معمار في دور الراقصة "سكّر"
ربما استأثر العنف الطاغي في المسلسلات السورية هذا العام، باهتمام الجمهور والنقاد على حد سواء، لكن السمة الأساسية للمسلسلات السورية في الموسم الرمضاني الحالي، هي غزارة حضور الراقصات وفتيات الليل. وتقدم ثلاث مسلسلات، هي "ولاد بديعة" و"تيمبو" و"الصديقات/القطط"، بطلاتها دفعة واحدة، كراقصات محترفات، بالإضافة لحضور الراقصات وفتيات الليل بغزارة كشخصيات ثانوية ومساعدة في مسلسلات أخرى، منها "تاج" و"نظرة حب" و"مال القبان".

ولا يعني ذلك الحضور تغييراً في طريقة نظر صنّاع الدراما السوريين إلى حضور جسد المرأة في الشاشة بخجل شديد. فإلى اليوم لم ترتدِ أي ممثلة سورية جسدت دور الراقصة الشرقية، بذلة رقص حقيقية، بل تتم الاستعاضة عنها بأزياء "محتشمة" تغطي أجسادهن بشكل أكبر.

في مسلسل "ولاد بديعة" ترتدي سلافة معمار التي تؤدي دور الراقصة سكر، "شورت" تحت بذلة الرقص لتغطية جسدها، ليبدو جسد المرأة هو التابو الوحيد في مسلسل كان يجب أن يتم تصنيفه "+18" لاحتوائه على كم هائل من مشاهد العنف، بحق الحيوانات والبشر، إذ عرضت فيه مشاهد قطط مشنوقة تلفظ أنفاسها الأخيرة، ومشاهد قاسية أخرى كتطهير شخصية مختار طفلًا وخصيه عندما يكبر، بالإضافة إلى مشاهد التعذيب والتشبيح والقتل الجماعي، وكلها كانت من وجهة كاتبَي المسلسل، يامن الحجلي وعلي وجيه، ومخرجته رشا شربتجي، أمراً لائقاً ومقبولاً للعرض في الشاشة الصغيرة، خصوصاً في رمضان الذي يقدسه المسلمون، بخلاف جسد الراقصة طبعاً.

أما في مسلسل "الصديقات/القطط"، الذي تتمحور حكايته حول خمس راقصات معتزلات؛ فترتدي الممثلات عباءات مبهرجة للإيحاء بأنها بذلات رقص شرقي، ليبقى جسد المرأة أيضاً هو "التابو" في المسلسلات التي تدّعي أنها تُصور حياة الراقصات بشكل إنساني، وهو أمر لا يتحقق لأن صنّاع هذه المسلسلات لا يتقبلون أصلاً الصورة الحقيقية للراقصات ويعتبرونها عاراً، ليس فقط في العرض البصري بل حتى من ناحية الأحداث والحوارات.

وذلك ليس جديداً، فواحد من أشهر أدوار الممثلة جومانة مراد، كان شخصية الراقصة "شهاليل" في إحدى حلقات سلسلة "أهل الغرام" قبل نحو 20 عاماً، وهي راقصة معتزلة تتوب وترتدي الحجاب، لكنها تواجه رفض المجتمع بوصفها شخصية غير أخلاقية. وكان الغرض من الشخصية هو نقد الممارسات غير الأخلاقية المنتشرة في المجتمع السوري عبر مقارنة مع جسد الراقصة فاقدة الشرف أصلاً، ما يعني أن مستوى المقارنة ضئيل، لدرجة أن المجتمع ككل يفشل في تجاوز السقف المنخفض الذي يحدده جسد المرأة في هذا السياق.

والحال أن الرقص الشرقي ليس مجرد مهنة تُمارسها النساء، بل هو جزء من الثقافة السورية والعربية عموماً، وأسلوب جمالي لتعبير المرأة عن ذاتها، وهو أمر غائب كلياً عن أي مسلسل سوري. فدائماً ما ينظر صُناع الدراما السورية إلى الرقص الشرقي بطريقة دونية، متجاهلين بُعده الثقافي، وغير ملتفتين إلى تزايد شعبيته عالمياً، إذ تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد لشغف الراقصات من مختلف أنحاء العالم بتعلم الرقص الشرقي.

وأغرب ما في الأمر، أن الدراما السورية لا تتعاطى مع سائر أنواع الرقص بالطريقة ذاتها، بل تخص الرقص الشرقي بهذه النظرة الدونية، وتتعامل معه كشكل من أشكال الانحلال الأخلاقي والرذيلة، بخلاف أنواع الرقص الأخرى التي يتم تصويرها كأسلوب للتعبير الجمالي والفني يحظى بالاحترام والتقدير، كما هو الحال في مسلسل "تيمبو"، من بطولة سوزان نجم الدين في دور الراقصة، والتي تسير ابنتها على دربها وتتعلم الرقص في المعهد العالي للفنون المسرحية.

والشخصيتان تحظيان بقبول واحترام المجتمع المحيط. ويعرض المسلسل مشهداً مثيراً للسخرية، يقارن فيه صاحب دكان، بين "الرقاصة" و"الراقصة". فالرقاصة هي التي تمارس الرقص الشرقي ويلاحقها العار، ويجب على الرجال ألا يفكروا بالزواج منها، بينما الراقصة هي الفتاة التي تُمارس الباليه الكلاسيكي أو الرقص المعاصر، وتدرس هذا الفن في المعاهد العليا، والزواج منها لا يعتبر عاراً من منظور صاحب الدكان الذي يُدلي بدلوه هذا مقدماً وجهة نظر أصحاب المسلسل الأخلاقية.

ومهنة الرقص الشرقي، بحسب الدراما السورية، هي مهنة سهلة، لا تتطلب أي مؤهلات أو خبرات، ويمكن لأي امرأة أن تمارسها إذا كانت منحلة أخلاقياً وعلى استعداد للتنازل عن "المبادئ الفطرية"، وهي عبارة تتكرر في السنوات الأخيرة في الإعلام السوري ككل، للحديث عن الأخلاق المجتمعية ولتجريم حقوق المرأة والحقوق الجندرية وحقوق المثليين وغيرها من حقوق الإنسان بوصفها تهتّكاً. وفي مسلسل "ولاد بديعة"، تنتقل "سكر" من العمل كنشّالة في الشارع إلى العمل كراقصة، وذلك يتم بشكل تلقائي من دون أي تدريب مسبق.

وفي بلد تتحكم فيه السلطة بعمليات الإنتاج والرقابة، يصبح السماح بهذا النوع من المسلسلات طريقة لخلق وهم بوجود حريات في البلاد، حيث يتم وصف المسلسلات بأنها جريئة وتتناول المحظور، أي جسد المرأة، ضمن بيئات توصف بأنها غير أخلاقية وغامضة في الشوارع الخلفية والبارات والملاهي الليلية.

ودائماً ما يتم تنميط شخصية الراقصة بصفات فاقعة، تعكس الانحلال الأخلاقي، كالضحكات المرتفعة والحديث بوقاحة وانعدام الخجل، بالإضافة إلى اقتران صورة الراقصة بالمرأة السكّيرة المدخنة. وبالكاد يمكن إيجاد فوارق بين السمات الظاهرية العامة لشخصيات الراقصات في المسلسلات على مر السنين، لأنهن دائماً يماثلن التوقعات والصور النمطية التي راكمتها الدراما السورية عنهن. فحياتهن الشخصية مليئة بالخزي، ونظرتهن لذاتهن لا تخلو من الاحتقار، ورغم ذلك يواظبن على "سلوكهن الشائن"، الذي يمكن اختزاله في تعدد العلاقات والتمرد على قيم المجتمع المثالي وضربها عرض الحائط.

وعندما يحاول صنّاع المسلسلات السورية رسم جوانب إنسانية لشخصيات الراقصات، يصلون أيضاً للنتيجة ذاتها، لتبدأ الحوارات المكررة حول انتمائهن لبيئات فقيرة لم ينلن فيها القدر الكافي من الرعاية والتربية، وأنهن كنّ مرغمات على مزاولة المهنة. وربما يكون المسلسل السوري الوحيد الذي طرح شخصية الراقصة بطريقة مغايرة، هو مسلسل "جوقة عزيزة"، الذي عُرض قبل ثلاثة أعوام، من بطولة نسرين طافش في دور الراقصة عزيزة.


(نسرين طافش في "جوقة عزيزة")

والمسلسل الذي صورت أحداثه في عهد الانتداب الفرنسي، صوّر عزيزة كنقيض للمرأة في المجتمعات الدمشقية المحافظة التي تقدمها مسلسلات البيئة الشامية. وفي المسلسل ذاته، كُسرت إلى حد ما كسر الصورة النمطية عن النساء اللواتي يحترفن الرقص الشرقي، إذ تعاطى معه كشكل من أشكال فنون الأداء، يحتاج تدريباً وعملاً جاداً، ليبدو الرقص الشرقي في المسلسل جزءاً من التراث وليس عاراً عليه، كما أن شخصية عزيزة، بما تملكه من طموح في مهنتها، كانت حالة استثنائية، ما زالت بقية المسلسلات السورية بعيدة من التقاطها.