"باربي"...سردية جديدة عن آدم وحواء

نور عويتي
السبت   2023/08/05
استخدمت المخرجة والكاتبة الأميركية غريتا جيروغ، رمزاً من أكثر الرموز الثقافية الأنثوية شهرةً  منذ خمسينات القرن الماضي، باربي، لتقديم رسائل نسوية في فيلمها الذي يحمل نفس الاسم. وفيما حررت الدمية من النمطية والانتقادات النسوية التي طالتها لسنوات، فإنها أدخلتها أيضاً مرحلة لاكتشاف الذات بعيداً عن المعايير البطريركية والرأسمالية المفروضة على النساء تحديداً.

وافتتاحية الفيلم المميزة تظهر أهمية "باربي" في تاريخ صناعة الدمى المخصصة للفتيات: مجموعة من الفتيات الصغيرات يلعبن بدمى على شكل أطفال رضع، إضافةً إلى بعض فناجين الشاي وأدوات الطبخ والتنظيف، إلى أن تظهر باربي عملاقة لهن كي يفتتن بجمالها، ويقمن بتحطيم ألعابهن القديمة.

يصاحب المشهد صوت الراوية، الممثلة هيلين ميرين، التي تُشير إلى أن دمى الفتيات قبيل ظهور باربي كانت تُكرس الأدوار الجندرية الخاصة بهن وتحصرهن بقالب الأمومة، أما مع باربي فكل شيء تغير. فباربي نموذج لامرأة مستقلة مادياً، ولديها حياة مهنية حافلة، ويمكن  لها أن تكون ما تريد، محامية أو طبيبة أو عاملة بناء أو رائدة فضاء أو كاتبة، لتختتم سرديتها: "بفضل باربي حلت جميع مشاكل النسوية والنساء، على الأقل هذا ما تعتقده باربي التي تعيش في باربي لاند".

الفيلم مليء بالسيميولوجيا الوردية، واستطاعت مخرجته أن تمزج بين ذكريات النساء الطفولية عن بيت دمية باربي، لتخلق "باربي لاند"، وهو عالم تملكه النساء، أشبه بالمدينة الفاضلة التي حلت فيه جميع مشاكل النساء بصورة بصرية مبهرة للغاية في كافة التفاصيل. والنساء في "باربي لاند" يسيطرون على السلطة بشكل كامل، فالرئيس وأعضاء الكونغرس نساء، وعمال البناء والحرفيين والأطباء أيضاً. هكذا تعيش باربي حياة مثالية كل يوم، إلى جانب نسخ "باربي" بمختلف الإصدارات والألوان، إضافة إلى نسخ دمية الرجل المرافقة لها "كين" الذي يعيش مهمشاً في "باربي لاند"، وليس لديه أي مهام حقيقية يمارسها، لأن وجوده للزينة ليس أكثر.

من خلال العلاقة بين الدمى، باربي وكين، وتباينها مع العلاقات السائدة في الأنظمة الاجتماعية الذكورية، تبدأ أعماق عالم "باربي لاند" وتأويلاته تتضح، ليتم اللعب على السرديات اللاهويتة عن قصة بداية الخلق بسياق يتم فيه تبديل الأدوار، لنقرأ الحكاية بشكل نقدي من خلال نظيرها المشوه. فكما خُلقت حواء من ضلع آدم لتسليته ولتخفف عنه وحدته، فإن باربي صُنعت في البداية، ومن ثم صنع كين ليزين عالمها الوردي. وتم تلخيص الفكرة بالعبارات الترويجية للفيلم: "باربي هي كل شيء، أما هو فمجرد كين". هكذا يرمز كين الذي يعيش في "باربي لاند"، إلى معاناة المرأة  المهمشة في العالم الحقيقي.



إذاً، عالم باربي هو يوتوبيا من نوع خاص، بُني هيكله وفقاً لنظرية خلق مغايرة تماماً عن كل النظريات والأساطير الدينية السائدة، حيث تُعطى الأولوية بمسألة الخلق للنساء، ليس في "باربي لاند" فقط بل في العالم الواقعي أيضاً، لأن العلاقة بين العالمين مركبة للغاية، وحياة دمى باربي في جنة "باربي لاند" تتأثر بشكل مباشر بمزاج الفتيات اللواتي يقتنين الدمى البلاستيكية في العالم الحقيقي، فهن علة الوجود ولهن مكانة الآلهة.

بعبارة أخرى: عالم باربي يتحكم به مجتمع آخر من الآلهة، وسبب وجود كل فرد في هذا العالم هو تسلية الآلهة وحسب، وحتى لو كان الخالق الأعظم واحد، وهو شركة  "ميتال" الذي صنع العالم بأسس رأسمالية، فإن ذلك لا يُغير الكثير، لأن الأكثر إثارة في نظرية الخلق التي طرحها الفيلم هو أن اللعب يحدد العلاقة بين الآلهة والمخلوقات، التي وجدت لتسليتها فقط.

والشخصية الرئيسية في الفيلم، باربي الشقراء النمطية، التي أدتها الممثلة مارغو روبي، تعيش حياة مثالية صاخبة، إلى أن راودتها في أحد الأيام أفكار عبثية عن الموت، ما ينعكس بشكل سيء على حياتها اليومية المكيانكية كدمية، ويخلق فجوة بين عالم "باربي لاند" والعالم الحقيقي؛ لتبدأ باربي رحلتها إلى العالم الحقيقي لإيجاد مالكتها هناك ونزع الأفكار السوداوية حول الموت من رأسها، لإعادة التوازن إلى "باربي لاند"، ويرافقها كين الذي أدى دوره الممثل رايان غوسلينغ.

في هذا الجانب من الحكاية يبدو واضحاً تأثر المخرجة بالمثيولوجيا الإغريقية، حيث تذهب باربي لرؤية صانعتها أو خالقتها، وعندما تصل إلى هناك تكتشف وعيها بذاتها، وتختبر مشاعر مختلفة من الحزن والفرح والخوف، كما يحدث في الملاحم الإغريقية مع شخصيات البشر وأنصاف الآلهة الباحثين عن المثل العليا في عوالم الآلهة. وعلى هامش الرحلة، يتعرف كين على بنية المجتمع الواقعي الذكورية، لينقل إلى "باربي لاند" أفكار السيطرة والتفوق الذكوري السائدة في العالم الحقيقي.

عبر التناظر بين العالم الواقعي و"باربي لاند"، تتضح معالم الكوميديا السوداء في الفيلم، التي تغطيها الألوان الوردية المبهجة والأغاني الإيقاعية الصاخبة، فتنعكس ذكورية العالم المعاصر، ويتم تسليط الضوء على سيطرة الرجال على سوق العمل والمراكز السياسية.

مثلاً، عندما تصل باربي إلى العالم الحقيقي، تُفاجأ بالروح الذكورية التي تطغى على المكان ومدى سيطرة الرجال عليه، حيث النساء ليس لديهن ذات المكانة والاحترام، والرجال يتصرفون بفجاجة ومن دون مسؤولية، لتتعرض فور وصولها للتحرش، وتكتشف أن مجلس الإدارة في شركتها المصنعة "ماتيل" هم ذكور فقطـ، يعتقدون أنهم مؤهلون لتحديد ما تحبه وتحتاجه الفتيات الصغيرات من دون أخذ رأي النساء بعين الاعتبار. وعندما تلتقي باربي بمالكتها  تكتشف كم هي مكروهة من قبل النساء والمجتمع النسوي في العالم الواقعي.

خيبة باربي يقابلها افتتان كين بالعالم الواقعي، حين يقف ويتأمل صور رؤساء الولايات المتحدة الذكور في الإعلانات الطرقية وعلى العملات الورقية، ينبهر بكافة التفاصيل التي ترتبط بسيادة الرجال في هذا العالم. يكتشف كين النظام الأبوي ويعمل على نقله إلى "باربي لاند"، ومن هنا تتسلل الخطئية إلى جنة النساء، وتعاد برمجة باربي على طاعة كين وإفراغها من الطموح، لتتحول "باربي لاند" إلى "كين لاند" التي هي نسخة ألعاب مصغرة عن الواقع الذكوري الفعلي.

تحاول باربي مع مالكتها البشرية استعادة "باربي لاند" عبر إعادة وعي باربي لذاتها من خلال خطابات نسوية تلقيها البشرية على دمى باربي. هنا ينخفض إيقاع الفيلم بسبب مباشرة هذه النوعية من الخطابات النسوية وتكرارها واستهلاكها بطريقة تجارية. لكن يعود الإيقاع إلى الارتفاع بسرعة مرة أخرى في معركة دمى كين ضد بعضهم البعض، بعد نجاح باربي في الإيقاع بينهم وإلهائهم لتغيير الدستور وإعادة الحكم لباربي.

والحال أن "معركة الكين" هي واحدة من أجمل المعارك السينمائية بصرياً، فهي لا تشبه مشاهد المعارك القتالية في أفلام هوليوود التي تقدم صوراً رجولية قاسية وعنيفة تغزوها الدماء، بل هي معركة وردية، يتحارب فيها الرجال بألعاب مطاطية ملونة بشكل فاقع من سهام وكرات مطاطية ومضارب التنس، كما يتقاتلون من دون أن يلمسوا بعضهم البعض.

وينتهي الفيلم بتوجيه باربي خطاباً مباشراً لكين للبحث عن نفسه واكتشاف ذاته بعيداً عنها، ورفضها للأدوار التي فرضتها الشركة المصنعة، لتغير باربي معالم "باربي لاند" إلى الأبد.