إسمي فاطمة ولا استحق حسم الـ30%!

تيما رضا
السبت   2023/06/03
من أعمال الفنانة العراقية الكردية الأميركية هاييف كهرمان
"أسامينا شو تعبوا أهالينا تلاقوها وشو افتكروا فينا"..
لا يا جوزيف حرب، لا يا فيروز، أهلي لم يتعبوا لإيجاد اسمي، بل سمّوني على اسم جدتي بكل بساطة، ربما تعب أهل جدتي فاطمة في إيجاد اسمها، أما إسمي أنا فلم يُبذَل فيه جُهد.

إسمي "فاطمة" لكنّه يختلف عن العديد من الفاطمات المنتشرات. لا تجوز له مِنحة الـ30% التي تقدمها "مدرسة المقاصد" للطالبات اللواتي يحملن اسم فاطمة، زينب، عائشة، وخديجة. فإسمي بالذات، ورغم أنه "فاطمة"، لا يحمل في طياته أي دلالات دينية أو مذهبية، حتى إن والدي المغدور ابن الراحلة، لم يكن يمارس الطقوس الدينية، وشكّلت خياراته العلمانية والسياسية باباً واسعاً لقتله في وقت لاحق. الدلالة الوحيدة الذي يحمله إسمي الحقيقي، هو الايمان بالوالدة التي رحلت باكراً، ولأني الحفيدة الأولى، فما كان من العائلة إلاّ ارجاع صدى اسمها على العائلة من خلالي.

ببساطة، كبرتُ حاملة إسم جدة لم أعرفها، لوالد لم أعرفه. هي رحلت بمرض السرطان، وهو رحل بمرض السياسة والاختلاف في الرأي في هذا الوطن المقيت.

فاطمة.. اسم لا يوجد حوله العديد من أسماء الدلع، في أفضل الحالات "فطومة"... إذاً لنبقي على فاطمة، أفضل من فطومة، وبالطبع لا ينقص لبناء الثقة في الإسم والنفس إلا اغنية "فطوم فطوم فطومة" لحسني البورزان وغوار الطوشي.

فاطمة... لم يحبّذ أي من أفراد العائلة منحي إسم دلع، رغم الدلع الذي حاولوا إغراقي به تعويضاً عن مقتل والدي المبكر. ومع هذا مرّت السنوات، خصوصاً العشرين الأولى، من دون دلع جدّة أو أب أو حتى إسم.

كرهي لإسمي نما على مراحل، وأخذ أشكالاً متعددة في المسيرة الطويلة. أذكر أني كنت في السابعة من عمري، أبكي كلما روت عمتي اللحظات الأولى من ولادتي، وتقول: "ركضت بالمستشفى عم ابكي.. قلت إجت فاطمة، رجعت فاطمة"، وألومها لأنها اعطتني اسماً "مش حلو". والدتي تحاول التخفيف عني "يا ماما كنت أريد أن أسمّيكِ سهى، بس خلص هيك ساقبت العادات، وبعدين حلو اسمك، وأنتِ تجعلينه حلواً".

لا، إسمي "مش حلو"، وما زال "مش حلو"، وسيبقى "مش حلو"... عندما كنت في السابعة، كنت أتمتع بنفحة تواضع ملحوظة، فكنت أرى أن الاسم الذي يليق بي هو "قمر"، يجب أن يكون إسمي "قمر"... فلتغيّروا لي اسمي!

تعديت مرحلة الطفولة على أمل أن أكبر وأتمكن من تغيير اسمي. المواد الأجنبية، كان وقعه أخف عليّ، إذ أن معلمة اللغة الفرنسية تلفظه بسلاسة أكبر، ويصبح FATIMA.. فاتيما يخف في وقع حرف "ط". أما الصدمة التي لطالما سوّتني بالأرض، فكانت عندما يقرر أستاذ اللغة العربية تفخيمه "فاطِمه" مع التشديد على الهاء في آخره.

وحده امرؤ القيس منحني بعضاً من حقي في الصف الأول ثانوي، عندما اضطر الصف كله الى ترداد قصيدة "أفاطمَ مهلاً بعض هذا التدلل/ وإن كنت أزمعت صرمي فاجملي". والأهم من ذلك أن هذه القصيدة مرت على الشبان في البكالوريا الأولى والثانية.

جرعة المعنويات التي أغدقتها عليّ قصيدة امرؤ القيس، لا سيما في شطرها "أغرك مني أن حبك قاتلي/ وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ"، ما لبثت ان اصطدمت بالشق الواقعي للحياة، بداية المطالعة والتماس الأول مع الحياة خارج بوتقة العائلة والمدرسة العلمانية رغم اسمها "البطريركية". والأهم، خارج كتاب التاريخ البعيد، الذي توقف عند مسرحية الاستقلال، فلم يروِ تفاصيل الحرب الأهلية التي أصابت منزلنا بقذائف قبل انتهائها وأدت إلى تعداد إسمي مع أخى بين الجرحى، وطبعاً كانت قضت على أي فرصة لي بأن أعيش في كنف عائلة تتألف من أب وأم عندما قتَلوا والدي وأنا في الشهر التاسع من عمري.

في الحياة الواقعية، حرب ضروس انتهت باتفاق الطائف الذي أدى إلى اختفاء عصام ورشاشه الحربي من درج المدرسة... إلاّ أصداء مآسي الحرب بقيت تتردد في خلفية اليوميات. وبات كره اسم فاطمة مرتبطاً بكُره الطائفية التي شكلت مدماك الحرب الأهلية وما زالت مستعرة في النفوس. فهل يعقل أن يكون مصيري يوماً أن أُقتل على حاجز بسبب إسمي؟ وكبرتُ ولم استطِع أن أغيّر اسمي، إذ أن ذلك يتطلب ذلك رفع دعوى على أهلي. مع ذلك، حققتُ خرقاً عندما أقنعت الأمن العام اللبناني بأن يكتب اسمي في جواز السفر بالفرنسية Fatima بدلاً من Fatmeh.

سنحت لي الفرصة أن اتخفّف من وزن فاطمة، أن اعتمد إسماً آخر مع أول موضوع صحافي كتبته في جريدة "الحياة" قبل 21 عاماً، عندما عرض عليّ مسؤول الصفحة أن اكتب بإسم تيما. وتيما، هو الاسم الذي منحني الفضاء الالكتروني، منحني فسحة اعتماده، يوم ساعدتني ناتالي ابنة عمتي الكندية المنشأ الشقراء على فتح أول حساب بريد الكتروني. إلاّ أني رفضت العرض السخي الذي قُدّم لي، وقررتُ أن أكتب في الجريدة بإسمي "فاطمة"، فلم أرغب أن يأتي اليوم الذي يُشار إليّ فيه على أني أختبئ وراء اسم مستعار لأعبّر عن آرائي.

"إنتِ فاطمة؟ ما تخيلتك هيك، شكلك هيك"، تعليق سمعته من سياسيين ورسميين ورجال أعمال قابلتهم في إطار عملي الصحافي. فقط عندما أسافر في رحلات عمل إلى الخارج، كنت أنجو من هذا السؤال، حيث لا يمثل الاسم أي وصمة طائفية أو مذهبية ويردده الأجانب بسلاسة "فاتيما".

التعامل مع الاسم ليس بالأمر السهل. الاسم مثل عنوان لوحة أو منتج ما، فكيف لي أن أتقبّل اسماً لم أشعر يوماً أنه يشبهني؟ وأتى الفرج مع مواقع التواصل الاجتماعي، ليحل معضلة الاسم ويربطه بالصورة، مع "فايسبوك" و"تويتر" وغيرهما، اعتمدتُ "تيما" اسماً لي.

أنا التي لم أرغب يوماً في طفولتي ارتداء عقد ذهبي يحمل اسمي، أو وضع حروف إسمي الأولى في سلسلة أو سوار، مع الوقت حصلت على هدايا باسم "تيما" تقبّلتها وارتديتها حلياً، رغم احساسي الداخلي بأنها ليست اسمي الحقيقي.

بقيتُ على الورق فاطمة، اسمي في صفحات جريدة "الحياة" الورقية فاطمة، واسمي في أوراقي الرسمية فاطمة، وعندما أرحل ستحمل ورقة النعوة اسم فاطمة.

إلاّ أني في يومياتي، تيما. وفي الفضاء الالكتروني وعندما اخترت تقديم برنامج في الشبكات الاجتماعية، تيما، ولن يجرؤ أحد على القول أني اختبئ خلف اسم مستعار، فها أنا أواجه بوجه مكشوف، بصوتي وصورتي، أقول كلمتي كما أريد ساعة أريد، لن أوصف بالجبانة... هل سيأتي اليوم الذي أدفع فيه حياتي ثمن رأيي؟ قد يحصل ذلك، لكن على الأقل أكون قد رحلت لسبب وجيه، وليس بسبب اسم لم اختره.

صح جوزيف حرب، صح فيروز: "الأسامي كلام.. شو خص الكلام.. عينينا هني أسامينا"!