كائن تنقصه العجيبة

نجلاء أبومرعي
الثلاثاء   2023/06/20
اللوحة للفنانة اللبنانية ماجدة شعبان
أَعِدُ أصدقائي بزيارات وأسفار لا أفي بها. لا أحزم حقائبي إلا بداعي العمل...
فقط مهمة مُعدٌّ لها مسبقًا أو مقترحة قبل ساعات قليلة، يمكن أن تبعدني عن هَول يشلّني ويمنعني من ترتيب ملابسي واحتياجاتي في حقيبة لا يزيد وزنها عن المسموح به، وفق حسابات شركات الطيران.

رعب الوزن الزائد، ينافس قلقي من نسيان ما قد أحتاجه وأنا في البعيد... ماذا لو احتجت ارتداء هذه الكنزة البالية التي تقبع في جاروري ولا أرتديها حتى لإتمام مهمة تنظيف في المنزل؟ يصبح رأسي جبلًا مترنحًا فوق عنقي، ويبدو لي التوازن بين القرارات المصيرية المؤجلة متكئًا على الإجابة المبتدئة بالتمييز بين الحاجة، والضرورة، والراحة. ثلاثية لا تعني مُضيفي الطائرة...

تردد على مسمعي أن إحدى شركات الطيران، تتشدد في احتساب الوزن الزائد، وقد أوكلت مهمة وزن حقيبة الطائرة للمضيفين على متنها. كل ابتسامة يتزين بها وجه المضيف، مرفقة بميزان يحمله في يده، يلوح به مُرحّبًا.

لم أنسَ بعد إلى أي حد أرهقتُ مخيلتي في الطفولة بمشاهد لا حصر لها، عن همّتي للسفر…كان السفر العنوان الأول للتغيير. لم يكن في بالي سوى الذهاب إلى البعيد، هناك سأنسج حياتي التي لن تشبه في همومها مَن هم حولي. هناك، لا أستمع لأحاديث لا تعنيني، لضجيج غير مرحّب به، لزائرين أتوا لتفقد غيري... إنه الهروب، وما هو إلا رحلة بلباس مريح وأنيق وشمس وهواء، وأزمة أتوجه بسرعة بارق إلى حلها فيتغير وجه العالم.

بدا السفر، وأنا مغمضة العينين في سريري، انعتاقًا سهلًا... لا يستدعي تأشيرة ولا مالًا، بل مخيلة نشطة تنمنم التفاصيل لإدارة سيناريو غير خاضع لمنطق الحاضر، لكنه يوافي الأحلام كما تُشتهى في المستقبل. أنا كائن لا يعوق دربه ارتباط ولا تثقله مسؤوليات، خفيف ومُعدٌّ بشكل دائم للانطلاق إلى وجهة لا ملل فيها. أحمل في حقيبتي الصغيرة نظارتي الشمسية وكتابًا ومرطبًا لليدين وعطرًا وهاتفًا وصورة، وفي رأسي كل ما تبقى...

بين تلك الومضات، التي أطبق عليها جفوني بحرص كي لا تنفلت من بينها الألوان وتتحلل الصور، ينمو الانشغال بتثبيت الرغبة في الاكتشاف والمغامرة وإشباع النفس بتشويق غير محسوب...

صدّقتُ أنني أحب السفر، وأنني خلقت لأكون في ترحال. صدّقتُ الكذبة. لكن الرعب من الفضيحة يلاحقني، والخشية من اكتشاف أمري تحوم فوق رأسي.

أرمي الحقيبة في أرض الغرفة، وأبدأ بالدوران حول نفسي، وتعصف بي رغبة السقوط فيها. كائن انتصب من عُقَد متشابكة، لا تلين إلا ببكاء يفيض عن الحاجة... وهذا أمر مفقود، فمنذ زمن لم يعد الدمع يعرف طريقه.

تعلّمتُ مع الوقت أن أدوّن كل ما أضعه داخل الحقيبة، في لائحة أراجعها أثناء التوضيب. واحدة من تقنيات اكتسبتها بالتجربة المريرة، رتّبتها في نسق محدد واعتمدته ركيزة لحمايتي من انهيار متوقع عشية كل رحلة. سفري بداعي العمل أوجب عليَّ الابتكار، فالمهمات لها مواعيد ولا مكان للمزاجية عند عتبتها، ولا لنوبات القلق. لا تقدم للكائن الثقيل، الذي يحب السفر من دون متاع وينتهي به الأمر بحقيبتين في اليد، ترفَ الرأفة بميوعة أوهامه بأنه القادر على كل شيء.

شعوري بالذنب لا تسعه حقيبة. ارتباطاتي ومسؤولياتي لا يمكن تجزئتها بين حقيبتي الشحن والطائرة. وأنا... كائن تنقصه العجيبة، لا أستطيع أن أكون في مكانين في الوقت نفسه.