الطبيب النفسي ليس للجميع

نسرين النقوزي
الأربعاء   2023/05/24
"عالم كريستينا" للفنان الأميركي أندرو وايث
تشكّل خاصية نشر المشكلة باسم "مجهول الهوية" مصدر ارتياح لدى من يحب مشاركة مشكلته الخاصة في مجموعات أُنشِئت خصيصاً لهذا الغرض في "فايسبوك". وهذا أمر مفهوم وبديهي، فمن منا يحب التعري أمام الناس وفضح عيوبه أو مشاكل حياته الخاصة على الملأ؟ هكذا يحلو الاختباء خلف شاشاتنا أو تحت أسماء وبروفايلات مستعارة.. ونُفضفِض.

هناك مَن يكتب قصته، طالباً مَن مرّ بالتجربة نفسه بين أعضاء المجموعة، إعطاءه نصائح أو حلول. وهناك من يكتب، ويضيف أنه لا يبحث عن حل، فقط يريد الفضفضة.

ربما، ضمنياً، هو يريد أن يسمع بأن هناك من عاش تجربته أو يشبهه، لكنه فاقد الأمل لدرجة يأسه من إيجاد الحل من خلال الكتابة في فايسبوك لأناس مجهولين أيضاً، مثله، سيعطون رأيهم المبني على مَنطقٍ وعِلمٍ حيناً، وحب مشاركة وثرثرة أحياناً أخرى.

وللداخل في هذه المجموعات أن يلاحظ أن غالبية هذه المنشورات تنتهي بجُملة تحمل رجاء صاحب المشكلة أن تكون التعليقات لطيفة وغير لاذعة، لأنه يمرّ بمرحلة صعبة من حياته، ولأنه ضعيف وهش، ولن يتحمل أن يهزأ أحدهم من مشكلته أو يلومه في ما آل إليه وضعه، ويطلب من الجميع أخذ الأمر في الاعتبار قبل كتابة أي جملة قد تؤذيه.

عادة، تتمحور المشاكل المُذيلة بهذا النوع من الترجّي، حول علاقة عاطفية سامّة مع شخص استنفد كرامة مَن يعاني الآن ويطلب النجدة. وتفند تفاصيل المشكلة مواقف استغلالية من قِبل الطرف الأقوى الآخر. خانه، كذب عليه أو حطّمه، هدد بالانفصال أو مارس عليه عنفاً لفظياً أو جسدياً. ونرى الطرف الأضعف يسألنا إن كان عليه أن يسامح أو ينفصل نهائياً. طبعاً، تختلف تفاصيل الحكاية بين واحدة وأخرى، فنرى نساء كثيرات يؤثرن عدم الانفصال من أجل أطفالهن، أو لأنهن لا يملكن دخلاً خاصاً كي يتكفّلن بأنفسهن بعد الطلاق.

وتأتي التعليقات متفاوتة بين: اصبري من أجل الأولاد.. أو تطلقي ولا تلتفتي إلى الوراء. ومعظم المعلقين يسأل قبلها صاحب أو صاحبة المشكلة في أي بلد يعيش، لأن هذا في نظرهم عنصر مهم لتحديد الحل. فإذا كانت "المُعنَّفة" تعيش في بلد عربي، يُطلب عادة منها الصبر لأن إمكانية حصولها على حياة مستقلة أو دعم من محيطها وأهلها كي تتحرر، شبه مستحيل، حسب الرأي والتجربة العامة. أما إن كانت في بلد أجنبي، عندها يُطلب منها وضع خطة كي تدرس وتعمل وما إن تقف على أرض صلبة مادياً ونفسياً ومعنوياً، يمكنها الانفصال والعيش بكرامتها بعيداً من هذه العلاقة السامة.

ولا ينسى الكثيرون ممن يقرأون المشاكل المتنوعة إعطاء نصيحة واحدة ومتكررة، أشعر أحياناً بضرورتها، وإن كانت العبارة الذهبية (الترند) الممكن إطلاقها في كل مقام ومقال: "يجب أن ترى طبيباً نفسياً!".

لا شك في ضرورة اللجوء إلى الطبيب أو المُعالج النفسي في كثير من الحالات، بل في الحالات كافة. فمَن منا براء من العُقد متعددة المنابع؟ تلك التي بسببها يشعر في العديد من الأحيان بأنه يتخذ قرارات خاطئة في حق نفسه أولاً، وفي حق مَن حوله، ويجد نفسه عاجزاً عن فك اللغز: لماذا يرتكب الأخطاء ذاتها، مراراً؟ الأرجح لأنه لم يستوعب الظروف التي جعلت من تركيبته النفسية تختار ما تختاره، فيأتي المعالج النفسي أو الطبيب، حسب طبيعة الحالة وما تحتاجه، ليضيء لك بعض المساحات المظلمة داخلك.

لكن، كي نكون أكثر موضوعية، إلى أي مدى متاحة فعلاً الاستعانة بطبيب أو معالج نفسي كأفراد في العالم العربي؟ أكاد أجزم أنها، للكثيرين منها، شبه مستحيلة، بسبب ارتفاع الكُلفة أولاً، وعدم اقتناع معظمنا بأنها ضمن الأولويات ثانياً، ثم عدم تقبّلنا قبل غيرنا بأننا "غير سويين" وبحاجة إلى مساعدة ثالثاً، وهذه نقطة يطول شرحها إن أردنا الغوص فيها وفي مدى مناسبتها للمجتمع.

تتكرر القصص والحكايا بشكل ملفت للنظر ويدعو لتأمل هذه العينة من المجتمع. كم نتشابه في طبيعتنا الإنسانية، ومشاكلنا. يجمعنا الكثير، ولو اختبأنا وراء اسم مجهول. وللقصص بقية...