ورقة نعوة من خلف المحيطات

نسرين النقوزي
الأربعاء   2023/05/10
"ذاكرة" رينيه ماغريت
وصلتني رسالة مقتضبة باللغة الفرنسية عبر "الواتساب"، من صديقة كندية لم أتحدث إليها منذ ما يقارب الأربع سنوات، أي منذ انتقالي من مونتريال للعيش في لبنان. "لدي خبر سيء جداً، سيحزنك حتماً".

أرسلَت الرسالة واختفت. بدأ قلبي بالخفقان، ولا بد أن مَن رأى وجهي لحظتها، تلقف قلقي وخوفي بل واستيائي منها لأنها لم تُكمل جُملتها. أول ما خطر في بالي أن تكون إحدى صديقتيّ المقربتين هناك، في خطر، أو أصابها مكروه. حاولتُ الاتصال بالمُرسلة، لكنها لم تردّ. قطعت الأمل منها واتصلت مباشرة بصديقتيّ عبر ماسينجر من دون مراعاة أنهما ربما في العمل أو مشغولتان. كل همّي كان أن أطمئن أنهما بخير.

خلال ربع ساعة، وكنت قد استكنتُ، أخبرتهما بالرسالة التي وصلتني، وسألتهما إن كانتا يعرفان عمن تتكلم هذه الصديقة. فأجابتا بالنفي، وشاركتاني شتم أسلوبها السخيف، أن تقول نصف المعلومة وتسكت.

في المساء وصلني رابط منها، خبر من صحيفة تصدر في كيبيك. وفتحت الرابط على عجل:
"نعلمكم أن روبير ماتيو توفي في منزله عن عمر يناهز الخمسين عاماً، في الأول من أيار 2023. أستاذ ماتيو ترك حزيناً كلاً من: أمه، أخواته الثلاث، صديقته المقربة وزملائه في العمل. العائلة تشكر كل من تعاطف مع خبر موت ابنها".

بعدما قرأت الخبر، أصبتُ بمشاعر متضاربة، خصوصاً وقد كتبت لي الصديقة بعده قائلة: "أعرف أنك كنت قريبة من روبير وقت عملك معنا، وأن استراحة الغذاء كنتما تأخذانها دائماً سوياً". ودُهشت... من نفسي. فأنا فعلاً كنت قريبة من روبير، كزميل في العمل، لكني منذ انتقالي لبيروت، لم أفكر فيه مرة واحدة، ولم أهتم لمعرفة أخباره، اعتبرته جزءًا من حياةٍ سابقةٍ لم تعد تعنيني.

مُقلِقة وقاسية ذاكرة الإنسان، كيف يمكن أن تنسى أو تتناسى فترة طويلة من حياتنا بمجرد انتقالنا إلى بلد ثان؟

أردتُ إبلاغ صديقتي بأني فعلاً حزنتُ لموته، لكني أواجه منذ انتقالي إلى لبنان مصائب ومصاعب جعلت أولوياتي في الحياة، بكل بساطة وتعقيد،... أن أنجو! لهذا، لم يعد خبر موت زميل ليحركني كما يجب، أو كما تظن هي، أو حتى كما أتوقع أنا.

عدتُ إلى ورقة نعوته البسيطة الهادئة، قارنتها بأوارق النعوة في بلادنا. لا ألقاب فيها ولا آيات ولا نصوص مقدسة. جُمل بسيطة تترك لكل منا حريته في تحديد علاقته بالراحل.

"كيف مات؟!!"، أرسلتُ لصديقتي بعد يومين من الخبر، إذ كان مازال يشغلني. تملّكني فضول أن أعرف كيف مات. ذلك أن روبير كان يبالغ في اتباع حمية غذائية طوال الوقت، كذلك اهتمامه بممارسة الرياضة يومياً!

كيف مات؟! لا أعرف لماذا أريد أن أعرف! لماذا يتملّكنا الفضول لنعرف سبب موت كل مَن نتلقى خبر وفاته؟ ربما نريد أن نسمع أسباباً "غير منطقية"، طارئة ومُفاجئة، كجلطة قلبية أو حادث سير، وما إلى ذلك كي نضيف على حياتنا عبثاً فوق عبث... أو ربما ظناً منا أننا، بمعرفة "السبب"، نهدئ روعنا، روع الموت. لكن هذا أيضاً عبث.

قالت صديقتي أن سبب الوفاة غير معروف، وبأن هذا أمر شخصي، يُحتفظ به ضمن العائلة والمقرّبين. فهذا يعتبر من أسرار المتوفي، حتى لو كان سبباً عادياً... وأفكر: إن كان هناك سبب "عادي" للموت. ثم أفكر إن مَوتانا لا يتمتعون بهذه الخصوصية، لا أحد يعترف لهم بها أو سمَع عنها حتى. "العادي" في جنازاتنا أن يطرح أي كان سؤال "كيف مات؟" ويبقى إجابة، بصرف النظر عن دقتها. ثم أفكّر أن أحياءنا أيضاً لا يملكون الخصوصية هذه، خصوصية الجسد وأمراضه وانكفاءاته.

تذكّرتُ جارنا الذي توفي الشهر الماضي، من دون أن يكون مريضاً. وكيف سمعت في اليوم الواحد، ألف تحليل لسبب وفاته: كان يحشّش في السرّ، مات "جرعة زائدة"، انتحر لأنه لم يعد يحتمل فقره وديونه، وغيرها من الأقاويل التي باتت تتكرر مع كل موت غير واضح المَعالِم والأسباب.

محظوظ مَن يموت في بلدي جراء مرض خبيث، كي لا يُكثر الخبثاء تحليلاتهم. لكني أقل حظّاً بذاكرتي المتعبة الآن. كم أنا حزينة على روبير، وآسفة أني نسيته في خضم واقع سلَبنا كل ما لدينا، حتى ذاكرتنا.