الإعلام اللبناني المعارض ليس مقطوعاً من شجرة

فتات عيّاد
الإثنين   2023/04/03
من الاعتصام التضامني مع الصحافي جان قصير أمام قصر عدل بيروت (المدن)
تُوّج الغضب الناتج عن استدعاء الصحافيَين جان قصير ولارا بيطار، من قبل جهازين أمنيين في خلال أسبوع واحد، بوقفة تضامنية معهما أمام قصر العدل، اليوم الإثنين، دعا إليه تجمّع نقابة الصحافة البديلة، ضد المسار الانحداريّ الخطير على مستوى حرية الصحافة في البلاد. وكان النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، هذه المرة، بما يمثل كأعلى سلطة قضائية في البلاد، في الواجهة، وذلك بادعائه على قصير. 

أكثر من 800 استدعاء لناشطين وصحافيين، منذ عهد الرئيس ميشال عون. العهد ذهب، ولم يذهب إرثه القمعيّ. أما الجديد اليوم، فهو أن ساحات الثورة التي غاب ناشطوها عن المشهد، انبثق عنها إعلام معارض "بديل" من الإعلام التقليدي اللبنانيّ، في تهديد إعلامي مستدام لسلطات طوّعت لعقود "السلطة الرابعة"، لتعلن السلطة اليوم معركتها ضد الإعلام المعارض، ويعلن هو بدوره الاستجابة للمعركة، مستنهضاً سلاحه الأوحد، ألا وهو الرأي العام اللبنانيّ، المنحاز تاريخياً، لحرية الصحافة والتعبير. 

عويدات يستقوي على الإعلام؟
شكلت منصة "ميغافون" محطة مفصلية في عالم الصحافة البديلة، مع خطاب جريء لصالح الفئات المهمشة وضد السياسات المالية التي أوصلت لبنان الى انهياره اليوم. إعلام بديل لا تتقاطع مصالحه مع السلطة بل تتضارب معها، وهو ما دفع النائب العام التمييزي غسان عويدات، "الفار من العدالة" بحسب المنشور، لاستدعاء قصير. 

ثلاثة رسائل يقرأها المسؤول الاعلامي في "مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية" (سكايز)، جاد شحرور، في استدعاء عويدات لجان قصير.

الرسالة الأولى، هي أن الاستدعاء يأتي في سياق نظام القمع الذي وصل لذروته في عهد ميشال عون، حينما اتضح لأي حزب يتبع كل جهاز أمني، ويحرك استدعاءاته للناشطين والصحافيين، تنفيذاً لأوامره، حيث تخطت الانتهاكات 800 انتهاك في غضون 6 سنوات، في دلالة على أن لا آلية قانونية رسمية لمحاسبة الصحافيين، في دولة بوليسية خاضعة لسلطة الأحزاب.

أما الرسالة الثانية، فهي طريقة تبليغ قصير (تم اعتراض طريقه عنوة أثناء قيادته سيارته من قبل عناصر أمن الدولة)، وهو ما يصفه شحرور بـ"البلطجة"، وهي إشارة إلى أننا ذاهبون إلى المزيد من الاستشراس من قبل السلطة ضد من يكشفون فسادها وارتكاباتها.

أما الرسالة الثالثة، فهي هوية المدعي، النائب العام التمييزي، غسان عويدات، وهي ليست بتفصيل. فعويدات، وبعد فشله في ملف المرفأ أمام الرأي العام اللبناني، لصالح القاضي طارق بيطار، يستقوي على الإعلام المعارض، محاولاً كسر شوكته، في إدانة أخرى له، بعد عدم خضوعه للتحقيق، بحسب شحرور. 

ضابطة عدلية... أم أداة للقمع؟
أما في ما خصّ مكتب جرائم المعلوماتية واستدعائه للصحافية لارا بيطار نتيجة تحريك "القوات اللبنانية" شكوى ضد تحقيق لها عن نفايات بيئية أتت بها "القوات" لمرفأ بيروت في الحرب، فالوضع ليس أفضل بكثير. 

في السياق، يقول شحرور، أن هذا المكتب ضابطة عدلية تم تحويلها أداة للنظام لاستدعاء كاشفي الفساد، لافتًا الى أنه لو كان للمكتب، نية التحقق من معلومات التحقيق، لكان أداؤه مختلفاً. 

القمع الذي تمارسه الأجهزة الامنية في خدمة النظام والأحزاب، تعرّيه في رأي شحرور، الاستنسابية في التعاطي مع الملفات. فمحتوى البرامج والمقالات الاستقصائية، وهو بمثابة إخبار للنيابات العامة بمواضيع الفساد، لا يحركها قيد أنملة، إنما نراها تتحرك بسرعة البرق ضد صحافي يقوم بعمله بحسب أخلاقيات المهنة، لأنه كشف فساد شخصية عاملة في الشأن العام، في حين أن هذه الأجهزة تغض النظر عن "أبواق" الصحافة الذين تربطهم علاقات بالأحزاب، ولا تحرك ساكناً تجاه سبابهم بعضهم البعض، ولا تحاسبهم على إثارة النعرات وخطاب الكراهية.

بين إرث الحريات... وإرث القمع
في حديثه لـ"المدن"، يقول الصحافي المُستدعى جان قصير، "اليوم ميغافون، بكرا (مقع) مصدر عام ومنصات أخرى، فنحن كجسم صحافي عرضة لهكذا انتهاكات من قبل السلطة، إذ كما هناك إرث حريات في لبنان، هناك إرث قمع فيه، وقد يصل للقتل احياناً، وهو أمر ليس غريباً علينا، لكنه مرفوض، ونقف جسماً واحداً بوجهه اليوم".

والموضوع برأيه لا يتعلق بـ"ميغافون" أو بالأفراد المستدعين، بل هي سلطة رافضة لأي صوت إعتراضي، وتريد كتابة التاريخ بطريقة مختلفة لتنسينا انفجار 4 آب والانهيار الاقتصادي. سلطة تزعجها منصات مثل "ميغافون" التي تعكس صورتها الحقيقية، ولعلّ منشورنا عن عويدات يلخّص صورتها تلك، صورة لقادة أمنيين سياسيين وقضائيين، غير معنيين باستدعائهم للقضاء، وهم فوق المساءلة.

بيطار: الزمن الأول تحوّل
الصحافية لارا بيطار التي تضامنت اليوم مع قصير في الوقفة أمام قصر العدل، تشدد في حديث لـ"المدن"، على وجوب التضامن ضد حملات التحريض على الصحافة كافة. 

وتضع الاستدعاء الذي حركته "القوات" بحقّها، في خانة "القمع لثنينا عن متابعة عملنا الاستقصائي في الجرائم البيئية الأخرى"، وربما ما شجع "القوات" على هذه الخطوة القمعية برأيها، هو أننا "منصة اعلامية صغيرة غير معروفة على نطاق كبير، فاعتقدوا انهم قادرون على تخويفنا وترهيبنا، ولم يأخذوا في الاعتبار إمكانية حصول موجة تضامن واسعة معنا ومع ميغافون، وهو ما حصل بالفعل".

فرياح حرية الصحافة أتت عكس ما اشتهت "القوات"، تقول بيطار. وفي السياق، تلفت إلى "أننا كصحافيين مستقلين غير تابعين لنقابة الصحافة، أي "ما إلنا ضهر" نقابيّ رسمي، إلا أن نقابة الصحافة البديلة، غيّرت هذا الواقع، ووجودها اليوم كبديل عن النقابة، يساعدنا لننتظم ونحمي أنفسنا كصحافيين/ات". 

وتؤكد أنه لن تثنينا حملات الترهيب عن كشف الفساد، بل العكس، لقد واجهنا آخر 3 سنوات أي منذ تأسيس "مصدر عام"، الكثير من الصعوبات التي وضعتها السلطة بوجهنا، من عقبات التسجيل الى فتح حساب مصرفي، ولا ننسى رفض النظام الاعتراف بالمنصات الاعلامية، وعدم قوننة عملنا، وكل هذه الظروف التي تحاربنا بهذا المنظومة، تحثنا على المثابرة وإكمال عملنا الاستقصائيّ.

معركة الناس
الإعلام المعارض اليوم ليس "مقطوعاً من شجرة"، فخلفه صحافييون وجدوا ضالتهم في "النقابة البديلة"، وكذلك نواب معارضون، وهو ما يخلق "توازناً" نسبياً في المعركة، لكن يبقى السؤال الأهم: أين الرأي العام اللبناني الذي لطالما انحاز لحرية الصحافة؟

تقول بيطار: "لا ننشد إنصافنا من قبل أي جهة رسمية، لا وزير ولا نائب، بل ننشد حمايتنا عبر التضامن معنا من قبل الصحافيين وزملائنا وقرائنا، وهذا التضامن هو الطريقة الوحيدة التي نواجه بها هذا الاستدعاء، ونكمل عملنا الاستقصائيّ".

أما جان قصير، فيذكّر بحقبة الوصاية السورية، التي، في أوجها، لم يسكت اللبنانيون ضد القمع، واليوم أيضاً "مش رح نسكت"، وقد أظهر اللبنانيون شجاعة خلال السنوات الأربع الأخيرة في الشارع، تطمئننا إلى أن السلطة لن تسطيع مهما فعلت، إسكات الرأي العام عن ممارساتها التي دمرت المجتمع اللبنانيّ. 

لا يعتقد شحرور من جهته أن معركة النظام اليوم هي مع فرد بقدر ما هي مع فكرة وإعلام معارض حديث، كسر بعد العام 2018، احتكار 30 عاماً للعائلات السياسية للمجال الإعلامي، وهو إذ تطور بعد انتفاضة 17 تشرين، بات يشكل خطراً على سلامة النظام الأمني القمعي. 

المعركة إذا ليست ضد قصير وبيطار أو "ميغافون" و"مصدر عام"، بل هي معركة الناس الذين يحق لهم أخذ المعلومة من دون تدجينها، برأي شحرور. فوظيفة الصحافي تسليم المعلومة، أما رجل الأمن الذي يعتقله، فإنما يمارس التعتيم الإعلاميّ بالقوّة.

الجو العام الذي فضحت من خلاله هذه المنصات البديلة سردية النظام، تتابعه أكثرية صامتة معارضة، وهذا الرأي العام اليوم أمام امتحان. فالوصول للمعلومة، معركته، قبل أن تكون معركة الصحافة، وهي معركة سنخوضها معه على مستويات عديدة بأدوات مفتوحة، يختم شحرور حديثه.