ألصِق أُذنك بجذعي.. واسمَع قلبي ينبض

إيناس عزي
الإثنين   2023/04/03
"شجرة الحياة" (غوستاف كليمت)
انبثق الضوء من مصباحنا اليدوي بحثاً عن خشخشة ودبيب أقدام مريب في الخارج. هناك، داخل البقعة المضيئة الممتدة على الأرض، رأينا امرأةً وولدين بثياب النوم يحملون أغصاناً قطعوها من أشجار أمام مدخل بيتنا. لم ننطق. ليست المرة الأولى. آخرون فعلوها قبلهم، وتظاهرنا بعدم رؤيتهم، وهم تظاهروا بذلك أيضاً. نظرت إلى الأصيص الصغير على حافة الشباك، لا شيء، لا أثرَ لحياةٍ بعد، تُرى هل يستحق هذا المكان المحاولة مجدداً؟ تساءلت، وأنا أغلق الشباك وأُنزل الستائر...

طوال سنوات، اعتدت رؤية تلاميذ المدرسة الثانوية المجاورة يجلسون في ظلال أشجارنا نفسها، يتحدثون يتواعدون، يتشاجرون، يتأرجحون بأغصانها، ثم يغادرون تاركين أغصاناً مكسّرة معظم الأحيان. كثيراً ما وقفت على الشرفة وقت الظهيرة لأراقب تلك الأشجار، لأحميها، لأطلب منهم التوقف، رغم نظراتهم المُشبعة باللامبالاة والسخرية.

الأشجار في بلادنا سيئةُ الحظ تماماً مثل أبنائها الذين تقطعت بهم السبل، هُجّروا أو قُتلوا أو سجنوا أو اختفوا أو رَحلوا...بحثاً عن الحياة. مثلهم، تحولت الأشجار إلى جذوع مبتورة في الطرق، في الحدائق العامة والخاصة، في المزارع والكروم. تحولت إلى دخان في بلاد تَحرِق نفسها...

بإمكان صورة من السماء لهذه البقعة من الأرض أن تُظهرَ شراسة السنوات الماضية، الفساد والتحطيب والحرائق، غابات معمرة بأكملها عاشت قروناً قبلنا، اختفت وكأنها لم تكن، لم تعد هذه البلاد مكاناً مناسباً للحياة، ولا باعثاً على الطمأنينة.

خلال العقدين الماضيين، قايض الناس أشجارهم المُعمّرة وبساتينهم المُثمرة، بسقوف اسمنتية ركيكة. وفي الشمال السوري أكمل الزلزال وَالحرب ما بدأه متعهدون، لِتسقط السقوف فوق رؤوس أصحابها وهم نيام، أمّا من ظلوا أحياء، فلم يجدوا مكاناً آمناً إلا بين الأشجار، حليفنا الأبدي الذي لم يخذلنا يوماً.

هذا الشعور بالأمان اختبرته وأنا في التاسعة تقريباً، حين جلست مع أبي صباح أحد الأيام تحت شجرتنا الكبيرة، نتأمل المدينة التي تمتد بأكملها بعيداً، لاكتشف عندها سحراً لم ينطفئ يوماً...دامَ ذاك الشعور لتصبح شجرتنا مكاننا المقدس. أخوتي، أنا وأمي، وأبي الذي يتذكرها مذ كانت جذعاً صغيراً، ولطالما تباهى بها أمام الجميع وكأنّها أحد أفراد أسرته، بقوتها وحكمتها وصبرها واتساعها. كيف لا، وهي لم تخذله يوماً، بل كانت دائماً في انتظاره ليجلس تحت أغصانها، لتمنحه هواء بارداً نقياً وظلاً وارفاً وإحساساً مُشبعاً بالأمان.

نحن وأولادنا أيضاً جلسنا في فيئها، كل منا فكر وتأمل.. وأي مكان أفضل من هذا للتأمل؟! ألم يصل بوذا لاستنارته تحت شجرة؟ ونيوتن، ألم توحي إليه شجرة بقانون الجاذبية كما تقول الحكاية؟ ألا تبدأ حكايتنا جميعاً، في الكتاب المقدس، مع شجرة المعرفة، معرفة الخير والشر، ونهايتها، نهاية الحكاية ألا تكون مع شجرة الحياة؟ وما الجنة ذاتها بلا أشجار؟ ألا تفرغ من معناها؟

زرادشت اعتبر الأشجار أخوة لنا، والله ذاته أقسم بها في القرآن! يعتبر الهندوس زراعة الأشجار نوعاً من العبادة. ونحنُ ألسنا جزءاً منها في طقوس وتحولات الطبيعة؟! في نصوص سهراب سبهري، الفنان والشاعر الإيراني، الجلوس تحت شجرة يعيدنا مجدداً للجنة، للبداية:
"لي إله قريب مني دوماً،
في ثنايا هذه الأزهار، عند جذع شجرة الصنوبر تلك.
على وعي المياه، وفي قوانين النبات... "

هي الأمان أيضاً في "الأشجار واغتيال مرزوق"، رواية عبد الرحمن منيف. تاهَ الياس وضلَّ طريقه وترك قريته طيبة لأنه خسر أشجاره في رهان، "إن مكاناً لا تنبت فيه أشجار لا يمكن أن يعيش فيه الإنسان"، هكذا رد على محاولات أمه لإعادته إليها.

"ساكورا" نشيد التراث الياباني، الذي ما زلت أحفظ بعض كلماته، يتعلمه الأولاد في المدارس الإبتدائية. وهو ليس إلّا كلمات بسيطة تَصفُ جمال الطبيعة في موسم إزهار الكرز، كلمات تجعلنا نُغرمُ بالأشجار بلا أن نشعر...

في البرازيل، "جنة الله على الأرض"، يقرأُ الأولاد الصغار رواية "شجرتي شجرة البرتقال" ضمن مقرراتهم المدرسية، رواية تُرغم القارئ على التعاطف مع شجرة صغيرة، منحت لزيزي، بطل الرواية، وقتاً وحناناً لم يجده من البشر. "أشجار تتكلم من كل الجهات في الوقت نفسه من الأوراق من الأغصان من الجذور، هل تريد أن ترى؟ ألصق أُذُنك بجذعي، واسمع قلبي ينبض". هذا ما تقوله شجرة البرتقال لزيزي الصغير. ماذا لو تعلمنا تلك الحكاية نحن أيضاً، حكاية شجرة البرتقال؟ ألم يكن بمقدورنا أن نحبَّ أشجارنا أكثر؟ ولماذا لا يعتبر قطع الأشجار في ثقافتنا، كما في ثقافة الهنود الحُمر، خطيئةً تستحق العقوبة وتأنيب الضمير؟

تلك الكائنات التي تمتص يومياً أطناناً من سموم البشر، تعدل من سرعة الريح، تجلب الرطوبة والمطر، تركب الضوء في عمل كالسحر، وتمنحُ الحياة. الكائناتُ التي تختبر الألم والذكريات، تتعاون مع بعضها البعض، تَتشارك الغذاء وتبعث التحذيرات برسائل كيمائية وإشارات كهربائية عبر شبكة من الكائنات الفطرية التي تعيش حول نهايات جذورها. هي كائناتٌ تشبهنا، فقط حين نتصرف بإنسانية. تشبه أولئك المُنقِذين وهم يبحثون عن أحياء تحت الأنقاض، ينصتون، ينتظرون العثور على قلوب تنبض تحت ركام الزلزال، قلوب فقط، لا يعرفون جنسها أو ديانتها أو قوميتها، قلوب تنبض.

يملأ الدخان هذه المدينة الكئيبة المُعتمة، مدينةٌ فقدت ظِلالها. أتساءل وأنا أمشي بين بيوتها إن كان ذلك الدخان هو رائحتنا؟ رائحة ذكرياتنا؟

وداعاً يا أشجارنا، يا من آويتِ طيور السماء في أغصانك، يا مَن صبرتِ على جنون الريح والثلج والمطر والصقيع، يا مَن عجز زلزال مدمر عن كسرِك. كم نحن آسفون لأننا لم نستطع حمايتك من وحوش دمروا بلاداً بأكملها.

الصيف المقبل، ستعبر العصافير، السناجب، ملايين الحشرات اللطيفة، وكل من سكنك يوماً وعرفك، ولن يجد بيته، ومثلنا نحن السوريين سيبحث عن وطن آخر. سيبحث عن مكان آخر يقضي فيه سنواته، حتى ولو كانت الأخيرة، فلا أرض ولا بيوت ولا أحباء ولا جذور بقيت في بلادنا، بلاد أجدادنا.

هذا الصباح أشرقت الشمس، رَفعتُ الغطاء عن الأصيص الصغير، لأجد حبة البلوط التي احتفظتُ بها من شجرتنا قد انتشت، بعد انتظار طويل. ورغم معرفتي بالزمن الذي تحتاجه لتنمو مجدداً، وبهذا المكان المخيف، إلا أنّي لم أستطع إسكات قلبي.