عن الأهل الصامتين على تجهيل أولادهم في المدارس

رأي فتات عيّاد
الخميس   2023/03/09
في فيلم "المكان الهادئ"، أي صوت يرتفع سيجلب الوحوش القاتلة
يُشهد لجيل الحرب من آبائنا وأمهاتنا، إصرارهم على تعليم أولادهم وصولاً "لأعلى المراتب"، هم الذين سلبت الحرب الأهلية مئات الآلاف منهم، حقهم في التعلم، فأرادوا "تسليح" أبنائهم بـ"سلاح العلم" الذي حُرِموا منه.

هذه المفارقة تُصعّب علينا فهم ظاهرة "صمت" جيل اليوم "المتعلم"، بسواده الأعظم من الأهل، حيال احتمال تطيير العام الدراسي الحالي، والذي يهدد مستقبل أولادهم الدراسي.

هل يخشى الأهل زعماء لبنان، أكثر مما يحبّون أبناءهم؟ سؤال يلحّ عليّ اليوم أكثر من أي وقت مضى. فآباء وأمهات أكثر من 200 ألف تلميذ وتلميذة في التعليم الرسميّ، لم يخرقوا سؤالي ولو بتظاهرة من ألف عائلة، للضغط على وزارة التربية من أجل حل جذري لمعضلة رواتب الأساتذة، كسبب مباشر لإقفال المدارس الرسمية.

"وحوش كاسرة" يستحيل الأهل، إن تعرض أولادهم لأذى، لكن هذا ليس حال أهالي طلاب المدارس الرسمية في لبنان، الذين يتعرض أولادهم لأذى لا لبس فيه. فهل أصبح اللبنانيون، المستميتون لتعليم أولادهم "أحسن تعليم"، هل أصبحوا فجأة غير مبالين؟

التوصل لإجابة منطقية ليس بالأمر السهل في بلد اللامنطق. لكن لننطلق من معادلة حاسمة، وهي أنّ الوحوش الكاسرة لا تدخل في حالة من "الهدوء" لو لم تكن تخشى وحوشاً أكثر ضراوة، وهو ما يأخذنا الى فيلم الرعب الأميركي الشهير "مكان هادئ" A Quiet Place، حيث المدينة التي يُفرض فيها "الهدوء" فرضاً كشرط للبقاء على قيد الحياة... وإلا نال الوحش منك ومن أولادك!

الوحش أقوى من النظام 
لنبدأ من ساعة الصفر، مع بداية الجزء الثاني من الفيلم، وهي العام 2020 حينما اجتاحت مدينة نيويورك وحوش تهدد أهلها بالفناء. وليكن انفجار مرفأ بيروت العام 2020، هو ذلك التهديد. أليس انفجار 4 آب، رسالة قاطعة بأنّ لبنان غير قابل للحياة في ظل حكم الطبقة السياسية التي أوصلته لانهياره؟ ثم ألا يجعل الانهيار الاقتصادي "غريزة البقاء" في حالة تأهب، طالما أن العدو الأبديّ للبقاء هو الفناء؟ ولهذا ربما يلقّب اللبنانيون أنفسهم، منذ استفحال الأزمة، بالناجين والناجيات.

ولنختصر معاناة اللبنانيين الناجين، في عائلة "آبوت" في الفيلم، والمكونة من الأم إيفلين، والأب لي، والفتاة المتمردة ريغن وشقيقها الصغير ماركوس، فيما صغير العائلة لم ينجُ من انقضاض الوحش، شأنه شأن آلاف السكان في المدينة.

إلا أنّ نجاة بقية العائلة هنا وحدها لا تكفي. فنوعية الحياة تتطلب حفاظا يومياً على الحياة، وهذا في حد ذاته موت. اللبنانيون الناجون من فصول الانهيار، تجدهم يصطفّون في طوابير الوقود والدواء والمال المحتجز في المصارف، وعندما يرفعون الصوت في الشارع، تقمعهم السلطة أو تحتال على مطالبهم أو، بكل بساطة، تهملها إلى حين ترهقهم المُطالبة، ويعود اليأس ليتصدر الموقف.

في الفيلم، تعيش عائلة آبوت كل يوم تحدي البقاء على قيد الحياة مع يأس مضطرد، فلا دولة هنا تقضي على الوحوش التي قضت بدورها على الدولة والمؤسسات. وإذا كانت حاسة السمع التي تلتقط بها الوحوش فريستها، أشبه برقابة ونظام قمع، فسيتعين على العائلة "الهدوء" و"الصمت" طيلة الوقت، كي لا تقع فريسة هذا النظام.

تخيل أنّ وحشاً يسيطر على مدينتك، فيقلب الحياة فيها الى جهنم، ويطفئ كل مظاهر الحياة فيها. لقد كان على عائلة آبوت، التأقلم مع الوضع، فتواصلوا بلغة الإشارة كي لا تسمعهم الوحوش، ومكّنتهم من ذلك إجادة ابنتهم الصماء لتلك اللغة.

الحياة بصمت... أو الموت
على ضوء الشموع، عاشت عائلة آبوت شهوراً في كوخ احتمت به، وسط الغابة، هرباً من الوحوش. هنا لا كهرباء ولا انترنت، وحتى سيارة العائلة فقدت قيمتها ونال منها الغبار، فتشغيلها يصدر صوتاً ويستدعي الوحش.

تخيلوا أن الحياة مع كائنات فضائية متخيلة سينمائياً في مرحلة ما بعد فناء البشرية، قضت على البشر وحضارة الإنسان ونتاجه من تطور وتكنولوجيا، وأعادت الناجين الى العصور الحجرية، فلم تقوَ عليها حتى مدينة نيويورك... هي حياة معاشة في بلدنا، وفرضها بالفعل حكّام لبنان!

الآثار النفسية للعيش بهدوء، بلا أدنى احتجاج، ستظهر بدورها مرات عديدة، مع تقييد أفراد العائلة لانفعالاتهم. في نيويورك التي سطا عليها الوحوش، ستبكي على حياة سلبت منك من دون أن تجهش بالبكاء، وإن علقت قدم ابنك في مصيدة، فنزف بشدة، ستقفل فمه بيدك مانعاً إياه من التعبير عن الألم، كما فعلت إيفلين مع ابنها ماركوس، وهي حين دخل مسمار في أسفل قدمها لحظة أتاها المخاض، كتمت صراخها، عن ألمين شديدين في آن!

والطفل الذي ولد في ظروف عيش أشبه بالموت، وأقفلت أمه فمه بكمامة تمده بالأوكسيجين، ووضعته في صندوق مظلم كي لا يسمع بكاءه الوحش، ليس أسوأ حظاً من أطفال لبنان الذين يتعرضون للخطر منذ تكوّنهم كأجنّة في بطون أمهاتهم، فيعانون نقص الحديد الذي تعانيه الأم نتيجة نقص الغذاء، ثم يعانون مخاطر وظروف عيش غير لائقة، ويبدو أنهم سيعانون من اليوم فصاعداً، من الأمّيّة المفروضة فرضاً على فقراء لبنان.

ولعلّ لحظات الحب المعاشة بصمت بين الوالدين في الفيلم، والتي أثمرت المولود الجديد، هي إشارة إلى أن هذه الأرض تم تفريغها من الملذات، فمظاهر الحياة فيها خالية من البهجة، ومع ذلك، كان هذا الولد، دليلاً على إرادة الحياة!

الصراخ متاح فقط قرب الشلال، فخرير تدفق مياهه أعلى من الصراخ، مهما علا، ولتكن صرخة الأب بمثابة احتجاج هنا أو انتفاضة هناك، لكنها طبعاً لن تفضي إلى تحرّر كلّي من الوحوش، طالما أنها لا ترتقي الى مواجهة مباشرة معها. لكن الوالد "لي" الذي ضحى بنفسه عمداً بإصداره صوتاً، ليشتت الوحش عن أصوات أبنائه. ولم يكتف بالصمت، فترك بين يدي ابنته بعد موته، سلاحاً قيد التطوير، تواجه به الوحوش.

صراع الأجيال
والأهل في الفيلم لم يتمردوا على الوحوش، إلا في ما ندر، فأتى التمرد الحقيقيّ من ريغن، الفتاة الصماء، وذلك مرتين اثنتين:

المرة الأولى، كانت حين سمحت ريغن لأخيها بأخذ لعبة "المكوك" من متجر المدينة المهجور قبل أن يهربوا الى الغابة، لتصدر اللعبة بين يديه موسيقى، ويبتلعه الوحش، وتعيش الفتاة مع عقدة ذنب موت أخيها. فهي المسؤولة عن ذلك بنظر أبيها، الذي لم يحررها من عقدة الذنب إلا لحظة موته. وهنا يبرز صراع الأجيال بوضوح، فالأم والأب منصاعان لنظام الصمت الذي فرضه الوحش، انصياعاً شبه تام، والفتاة متمردة، في خياراتها وصمتها، فهي لا تتكلم اللغة المحكية التي يسمعها الوحش، بل بلغة الإشارة كونها صماء، أي أنها صامتة طالما أنها لا تستطيع النطق، لا لانصياعها لأوامر الوحش. وإذا كان الكلام يستوجب طرفين، أي المتكلم والمستمع، فليكن الإخضاع لغة الوحش، والرضوخ لغة الأهل. أما لغة الاشارة فهي خارج نطاق المخاطبة التي يجيدها الوحش وخارج قواعده، وهي بمعنى آخر لغة جيل لم يقو الوحش على تدجينه بعد.

أما التمرد الثاني والأهم، فهو فهم الفتاة لرسالة ناجين عبر ترددات الجهاز الذي طوره والدها ووعدها مراراً بأنه سينجح كسلاح للقضاء على الوحش. ونجحت الابنة في تحويل نقطة قوة الوحش، وهي حاسة السمع، الى نقطة ضعف. فالذبذبات القوية في الجهاز الموصول بسماعات أذنها، عندما تترافق مع إصابة بالغة في جسد تلك الوحوش، تصبح كافية لتدميرها.

العلم ليس وحده السلاح...
"العلم سلاح". قالها لنا أهلنا مراراً، من دون أن يحددوا الحرب التي علينا خوضها، وضد مَن، طبعاً غير الحرب على الجهل نفسه. وها هو جيل بأكمله، يُحمَّل أفواجاً نحو الجهل، فالجيل الذي لا يفقه لغة الترهيب التي يفقهها أهله، سيكون عصياً على الإخضاع. وما خوف إيفلين على طفلها حديث الولادة، من الوحش الذي حاصرها وقت المخاض، إلا دلالة على أن فرص التغيير تكبر، جيلاً بعد جيل، والوحش يدرك ذلك!

إلا أن الوحوش في الفيلم لم تكن على علم بالسلاح الذي يُطوّر ضدها، فلم تتم إعاقة تطويره. لكنّ الطبقة اللبنانية الحاكمة تعلم بأنّ المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية وسائر مؤسسات التعليم وبناء الأفراد، هي بمثابة سلاح ضد النظام، نظامهم، نقطة قوتهم وضعفهم في آن. وما التدمير الممنهج للتعليم الرسمي، لحساب الخاصّ (الذي يعاني أيضاً!)، وما عدم التعامل بحزم مع أزمة إضراب الأساتذة المفتوح، سوى دليل على ذلك.

لبنان... كلّ لبنان
الجدير بالذكر أن ريغن قتلت وحشين بسلاحها في الجزء الأول من الفيلم، بمساعدة والدتها، لكنّ المواجهة النهائية كانت إثر لحاق الوحوش بها الى جزيرة يحتمي بها ناجون آخرين، حيث ربطت ريغن الآلة التي طورتها بعد والدها، بغرفة "البثّ الجماعيّ" أو الراديو في تلك الجزيرة، لتصل ترددات الآلة لنيويورك، وتقتل ذبذباتها الوحوش كلهم.

هكذا تبدو النجاة المتخيلة في لبنان، تمرداً "وطنياً" عابراً للمناطق. يقول الأديب اللبنانيّ ميخائيل نعيمة: "إذا فتحنا المدارس اليوم، لا نحتاج إلى مساعدة الأجانب غداً". قول، يجعلنا نسأل، هل ضَرب التعليم الرسميّ هو محاولة لوأد انتفاضة الأجيال القادمة قبل حدوثها؟ أم أنه، ببساطة، جزء من الانهيار الذي يصيب كل شيء في ظل لا مبالاة النظام وزبائنه؟ وفي الحالتين، هل يفرط اللبنانيون اليوم بسلاحهم الأوحد في المواجهة؟