للرجال الحق أيضاً في الكلام والشكوى والبكاء، ولكن..

نور صفي الدين
الخميس   2023/03/23
من فيديو حملة "أبعاد"
لا تقتصر حملات التوعية حول المعاناة النفسية، على النساء فقط. وإذا كان هذا ما يبدو في الظاهر على اعتبار أن النساء يتعرضن للتمييز بصورة غير متكافئة مع الرجال، فان ذلك لا يعني ألا تقوم المؤسسات الحقوقية بمناصرة حقوق الانسان بغضّ النظر عن الجندر، وهنا يمكننا أن نكون اختزاليين بصريح العبارة لنتحدث عن حقوق الرجل تحديداً، على الملأ وبلا مداراة.

يمكننا أن نقرأ هذا التحول الايجابي في الحملات الاعلاميّة للمنظمات المحلية في لبنان في الآونة الأخيرة. فاستهداف الرجل ينطلق من قيمته الإنسانية بشكل مطلق أولاً، واعتباره شريكاً أساسياً في النضال الحقوقي للوصول الى مجتمع مناهض للعنف ومنفتح على حقوق المرأة ثانياً.

تالياً، إن تحسن الصحة النفسية للرجل تعني الوصول الى مجتمع سليم وأقل ضرراً على المكونات الأخرى بمن فيهم النساء. على أنّ هذا الموضوع ليس بجديد، إلا أن طريقة تناوله في صفحات وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تطرح العديد من التساؤلات حول إعادة تنميط صورة الرجل في العقل المجتمعي.

يمكن للرجل أن يحزن بلا صراخ، أو أن يتذمر بلا عنف، أو أن يمشي وحيداً من دون أن يضرب الحائط بيده، وعلى عكس ذلك تماماً يمكن للرجل أن يشتعل غضباً، فيتحول الى كارثة جماعية، عليه وعلى غيره. وهذا ما لم نرَه في الفيديو الذي نشرته "أبعاد"، وهي منظمة إقليميّة، تعنى بحقوق الإنسان وتحديداً المرأة.

طرح الفيديو، بالشخصيات الأربع المعروضة فيه، الرجل الذي قد يعاني تحدياً نفسياً، على أنّه الغاضب باستمرار، المتعالي على الآخرين، والذي لا بد أن يترك دائماً ضحايا وراءه. واشتركت المشاهد الأربعة الموجودة في الفيلم على حركة "الخبط الشديد" على الطاولة... والمصعد.. والمجلى بالاضافة الى الصراخ الشرس، حسب المشاهد التي ظهر فيها الرجل إما حانقاً، أو مستعلياً، أو سلطوياً.

أمام هذا كله، لا يمكن تصوير انفعالات الرجل على أنّها تعبير موحّد لانفعالات الرجال كلهم. هذا التأطير يتحول الى اسقاط منهجي قد يصبح قيد التداول بصورة مبررة لاحقاً. وإن بدا، بحسب التقاليد، أنّ الرجل في العادة هو الأقل تعبيراً والأكثر حدة في لغته الجسديّة، فإنّ هذا لا يحتم استخدام هذا التقليد كقاعدة في الشرح والوصول الى الجمهور.

كان من الأفضل لو أن السيناريوهات الأربعة اشتملت مثلاً على رجل لا يغادر سريره بسبب الكآبة، ورجل يمضي الليل وحده يسهر ويفكر، ورجل آخر يسمع صوت صراخ يحوم في رأسه ويحاول تجاهل ذلك بالابتسام للآخرين. كل هذه السيناريوهات، الى جانب سيناريو الغضب، تسمح بتكوين نظرة عادلة لانفلات المشاعر الناجمة عن الضغظ النفسي.

الهدف من هذا كله ليس تمجيد الرجل أو وضعه في كادر مثالي، بل التعاطي مع  مشاعر "غضب" قد لا يتم التعبير عنها بوسيلة أحادية وتنميطية. فالرجل ليس شبحاً دائماً، وإنّما ضحيّة في بعض الأحيان، كأي إنسان.

من جهة أخرى، يجدر التنبه إلى أن التعب النفسي قد لا يظهر بطريقة مباشرة، فالغضب هو أحد المشاعر التي تترجم هذا التعب، لكنه ليس أولها ولا آخرها. هذا التعب قد يشمل مشاعر أخرى كالحزن، والانسحاب، والوحدة، ومشاعر الذنب والندم وفقدان الأمل. فالرجل مجدداً يحزن، ويندم، ويكتئب، ولو بصمت.

ثم يختتم الفيديو بعبارة "لا تؤذِ عائلتك.. لا تؤذِ نفسك.. مستعدون لنسمع الحكي". وتشكل هذه الجملة استمرارية للحكم المسبق عبر الأفعال الواردة في الفيديو نفسه، اذ أنّ البدء باستشعار الذنب لا يشجع في العادة، الشخص على الكلام، أي أنّه الأجدر أن يتم تشجيعه على طلب الدعم بهدف مساعدة نفسه أولاً، من ثم يستدرك مدى تأثيره السلبي في المحيط إذا ترك نفسه يتخبط بلا دعم.

وماذا لو كان الرجل ضحية لأذية الآخرين، وليس بالضرورة مرتكباً لفعل الأذى؟ كما أن تعريف "الأذى" قد لا يحاكي كل الرجال الذين يشاهدون الفيديو، إذ أن الأذيّة أمر نسبي في مجتمع ما زال يبرر ارتكاب الجرائم بإسم الشرف.


لاعبو كرة السلة
بالتزامن، نشرت جمعية "امبرايس"، الثلاثاء، فيديو من حملتها المتواصلة منذ شهر شباط/فبراير الفائت، لتسليط الضوء على المعاناة النفسية للرجال. عرضت فيه شهادات للاعبي كرة السلة الرجال في لبنان، عن علاقتهم بأمهاتهم. يضيء هذا الفيديو على العمق الداخلي لعاطفة للرجل، ويشجع على إبراز تلك العواطف، ويذكّر بأن الأم، وهي المرأة، هي القوة الكامنة خلف نجاح هؤلاء اللاعبين.

عمدت "امبرايس" في فيديو آخر، إلى طرح الصورة النمطية "الخاطئة" التي لم يتعلمها الرجل وانما دُفع إلى التماهي معها عبر قصص لاعبي الفريق نفسه. فالرجل يبكي حين يخسر، ويعاني حين يفقد أحد أحبائه، ويلجأ لمعالج نفسي حين يتعب.

جمالية طرح هذه المواضيع تهمين على بعض الهفوات. ومنها، اختيار طبقة محددة من الرجال في مساحة واحدة: لاعبو كرة السلة الذين اختزلوا همهم في الفوز على أرض الملعب والحفاظ على صحتهم النفسية للاستمرار في اللعب، وهذا قد لا يشبه واقع الرجال في المجتمع اللبناني بشكل عام، وتفاصيل حياته اليومية. وربما تكون الفئة العمرية المستهدفة هي التي حددت زاوية العمل.

استخدمت "أبعاد"، لغة الشارع اللبناني، فاعتمدت عبارات مثل "طالع نازل... مسكرة معك... عاملها قضيتك"، وهذا يساهم في تسريع الوصول الى الجمهور نظراً لإشعاره بأن صانع المحتوى يعرفه جيداً ويتكلم لغته ويشعر معه. على خلاف "امبرايس" التي تأرجحت بين اللغتين العربية والانكليزيّة (الى جانب الترجمة) على ألسنة اللاعبين، وهذا ما قد يشكل حاجزاً في مجتمع يتكلم العربية ويلجأ في أغلب لحظات المواجهة العاطفية أو الغضب إلى لغته الأم.

في المحصلة، يجب على هذه الحملات أن تستمر، لكن على العاملين في هذا المجال التنبه الى أن أحد الأهداف هو مساعدة الرجل من أجل دعمه في التحرر من أسر العادات المتهالكة، والسعي الى الوصول الى رجال يكبتون ما تيسر من غضبهم بلا شكوى.


(*) للتواصل مع مركز الرجال في "أبعاد": 71283820
منظمة "امبرايس" للصحة النفسية: 1564