نجاة عابرة من زلازل طبيعية وغير طبيعية

تيما رضا
الثلاثاء   2023/02/07
يمسك يد ابنته في كهرمانماراس بتركيا (غيتي)

وحده البؤبؤ في عيني يتحرك، أحاول فك طلاسم ما أشعر به في العتمة الدامسة التي أثقلها انقطاع التيار الكهربائي.

صوت الرعد وعويل الرياح يزأران في أذني، لكن ما يُسمّرني في فراشي شيء آخر. هدوء أو ترقب قد يكون حذراً، هو الشعور الذي يحرِّك حدقتَيّ، بل هو الشلل. شلل يسري في جسدي، لم أعد أدري هل بدأ من رأسي نزولاً إلى قدميّ، أم أنه زحف في الاتجاه المعاكس فسيطر على دماغي الذي أبى إصدار أي أمر بالحركة.

ثوانٍ معدودة، استمرت دهراً، أنظر إلى ابنتي وأتمنى لو أنها ما زالت جنيناً في أحشائي، كان أسهل عليّ حملها والهرب بها، الهرب إلى أين؟ كل المعلومات التي مرت عليّ منذ أيام المدرسة، مروراً بكتابة التقارير والأخبار عن الزلازل والهزات الأرضية، توصي بالنزول إلى الشارع، إلى مكان خالٍ بعيد من المباني، أين هو هذا المكان؟ أين هي الحدائق العامة والمساحات البعيدة من المباني؟ الهرب يلزمه أن أتحرك، وكيف سأتحرك؟

الظلام يحميني من رؤية ما تخلّفه الهزة في الغرفة حولي، إلاّ أن الهزّات الإرتدادية في رأسي تفبرك أفكاراً وسيناريوهات على مقياس ريختر، أفكار لا يمكنني تذكّر تفاصيلها، لكني أستطيع الجزم بسوداويتها.

صفة الكوارث الطبيعية تجمع بين العاصفة الهوجاء والهزّة الأرضية، أنا التي كنت أُنظِّر قبل ساعات قليلة في خيمة لقمان سليم، عن الكوارث الطبيعية التي يتعرض لها البشر، والكوارث غير الطبيعية التي نتعرض لها كلبنانيين. أيعقل أني أحلم وأن الكارثة الطبيعية تجتاح منامي لتسجيل موقف مضاد لما قلته؟ أنا التي اعتدت استرجاع تفاصيل كل ما أتعرض له خلال نهاري، في أحلامي. فأكمل مسلسلاً أتابعه في نتفليكس، أو أكمل قراءة رواية أسترق الوقت معها من الزمن، أو حتى أدخل كممثلة في مسرحية شاهدتها قبل النوم.. أيعقل أني أجترّ في منامي مقارنتي تلك؟

هذا الشعور بالشلل هو نفسه الذي جمّدني لساعات أمام التلفزيون في 4 آب 2020، قبل أن أمتصّ ما ألمَّ بنا، وأكمل حياتي من بعده مشظاة الروح والنَّفْس.

توقف الهزّة الأرضية، لم يُخفّف من جحوظ عينيّ، إلاّ أنه حرّر يديّ في ظل استعار الحريق الذي أعانيه منذ فترة في قدميّ. على ضوء الهاتف أتحسس وجه ابنتي، هل أغمرها وأبكي؟ لا، قد يؤثر ذلك في "بريستيجي" كأمٍّ متنكرة بلباس المرأة الحديدية. أبادلها بعض الكلمات، وأشرح بكل هدوء ما حصل على أنه درس تطبيقي لما درسته عن الزلازل الأسبوع الماضي.

يضجّ هاتفي بالرسائل والتحليلات. يؤلمني أن ما شعرنا به كان ارتدادات زلزال مدمّر ضرب تركيا وسوريا، لكني سأمنح نفسي حق الشعور بالراحة لأن الزلزال لم يكمل طريقه إلينا بقوته التدميرية.

أعيد إغماض عينيّ لساعات قليلة على وقع أسئلة، مَن كان ليُملِم أشلاءنا؟ نحن اللبنانيين الذين أصبنا بنصف زلزال منذ فترة في انفجار المرفأ، وشهدنا عجز الدولة.

مَن كان لِيُطبِّبنا؟ ومستشفياتنا عاجزة في الأيام الطبيعية.
مَن كان لِيؤوينا؟ ومبانينا ما زالت متصدعة كأرواحنا منذ تفجير بيروت.
الحمدلله على السلامة، تبدو لي أكثر تعبيراً من صباح الخير، لنا نحن اللبنانيين، حتى في يومياتنا الطبيعية.

حتماً لقد رأف بنا قدر ما، لسبب ما، أعتقد أنه أشفق علينا، في ظل دولة عاجزة حتى عن تصريحات ذات معنى. وزير الداخلية نصحنا بالصلاة والدعاء. أحاول أن آخذ بنصيحته وأحوّل دعائي لمَن هم بحاجة إليه، إلى ضحايا سوريا وتركيا.

الصور من سوريا تحفر في داخلي. شعب لم ينفض عنه غبار الحرب، ولم يجف دمه، ما العبرة بأن يُضرَب بزلزال؟

مَشاهد الدمار واحدة، مشاهد انتشال الجثث واحدة، معجزة العثور على حيٍّ بين الأنقاض واحدة، العجز واحد، صور تحتل مخيلتنا لنشكّك في جدوى الحياة، في عبرة الخالق، في مفهوم الخلق...

نصفُّ الكلمات المستنكرة، نكتب خبراً من هنا أو نصوّر خبراً من هناك، نضع التحذيرات على ما نقدمه من مادة، نأبى مشاركة الصور الموجعة خوفاً من أن تقع في أيدي أطفالنا الذين يشاركوننا أجهزتنا الذكية... نكتب كمن يعترف بين يدي كاهن سيغفر له خطاياه، نحقن ضمائرنا، بأننا أدّينا قسطنا من التضامن، قبل العودة إلى حياتنا "الملونة"!