ريتا أخرى

ريتا باروتا
الإثنين   2023/02/20
اللوحة للفنانة اللبنانية ليلى داغر
لا أذكر أحداً. لا أذكر عطراً.
لا أذكر ملمساً، ولا حتى أشكالاً للوجوه، أو الأيدي، أو أحاديث.
أمشي وانا أمسك بيدي ممحاة. هي التي أحاول بكل ما أوتيت من قوة، أن أجعلها الثابت الوحيد في حياتي. في حيواتي.
عشتُ قصص حب جمة. أعرف ذلك لأني أملك من السنين ما يؤكد ذلك. ومن التجاعيد. وقليل من السقم. والملل. نحن نمل لأننا اختبرنا. الملل يأتي نتيجة محتمة لاختبارات عديدة. الاختبارات لا تنذر بأي شيء سوى بالملل.
لا أذكر اسم حبيب. ولا حتى كيف كان شعوري حين مارسنا الحب.
وهل مارسناه؟ ما الذي مارسته؟
لا أذكر أي لحظة جميلة. سعيدة.
يقال بأن الحياة تقاس بلحظات السعادة التي نعيش. لا مقياس للحظاتي. لأنها ليست.
تخرج من ثقب الوقت والذاكرة. تخرج ولا عود.
لربما تعود الى اللاوقت، في الوقت الذي أحب أن أسميه النسيان.
أنا أنسى. أنسى نفسي قبل أن أنسى الآخرين. انا متجددة النخاع الشوكي، يومياً.
وكأن هناك من جعل من مهامه أن يخرج ما في نخاعي، يفرغه في حاوية نفايات على مفترق طريق تحبه بنات آوى- هذا إذا كانت ما تزال حية، ثم يعيد ملء رأسي باللاشيء.
لا أذكر من أنا. ولا أشعر بأي حاجة لفعل ذلك.
حررني نسياني من العقاب. لا عقاب لمن ينسى.
ولا عقاب لمن ليس. أنا لست.
أعيش يومي. وأحمل في جعبة قلبي، الكثير من الألم.
هو وحده الذي يبقى، من دون أن أملك أي قدرة على فهمه، أو ربطه بما عشته.
الألم ليس ذكرى. هو كقلبي، ينبض، من دون إدراك.
ساذج، ألمي. لأن لا تاريخ له سوى بأنه هنا. هو والنسيان، يتعانقان.
لا أذكر لماذا أتألم. لا أذكر من كان أول من زرع في بطني الصرخة الأولى.
لا أذكر أمي. ولا حتى غيابها.
جلّ ما في الأمر، لكي أبسّط الأمر كثيراً، قليلاً، هو أني -أي تلك التي تكتب ما تكتبه الآن- واحدة أخرى. ليست أنا.
تعيش لحظة. وتموت. أعلم بأني أموت وأنا أكتب ما أكتبه.
لن أذكر ما أكتبه.
سأقرأه يوماً، وسأندهش. من التي كتبت؟
وسأبتسم.
أنا أبتسم كل مرة أعي بأني واحدة أخرى.
ريتا أخرى. تملك الاسم نفسه. فقط الاسم. وماذا يعني الاسم؟
كنت أفضل لو كان باستطاعتي أن أغير أسمي، مع موت كل واحدة مني.
أو موتي.
ربما كل ما في الأمر هو أني أمسك بالممحاة، أمحي الجميل قبل القبيح، لأني لا استطيع حمل الجُعَب.
أحب أن أسافر خفيفة. خفيفة من نفسي.
أسافر حافية. سوى من الألم.
أعتقد أنه ليس ملكاً لي.
ثمة مَن تركه عندي "أمانة"، وطلب مني أن أطعمه، أغسله، أمارس الحب معه، أزرعه في حديقتي.
ألمي ليس من ذاكرتي. وأنا لست امتلكه.
وأنا أنسى.
وأنا لست.
وسأكتب غداً، بأني نسيت ما كنت أكتبه اليوم.