مقبرة.. أو متاهة متوازي المستطيلات

نسرين النقوزي
الثلاثاء   2023/02/14
لوحة: تمام عزام (2008)
الدخول إلى هذا النص، يشبه الدخول إلى مكان تتراصف فيه قطع متوازي مستطيلات كلاسيكية، بُنيت من حجر ولصقها التراب المبتلّ. دخول كئيب وموحش، لكنه مع ذلك ورغم كل القبح المتمثل في فعل الموت، رومانسي ويرمي درجات من الجمال مبسوطة أمامك.

وأمام كل متوازٍ مستطيل، تعلو قطعة رخام صغيرة، كُتب عليها اسم مع تاريخ ولادته، وتاريخ وصوله إلى هذا المكان. شاهد السكن ذاك، هو دليل إدانة الراقدين عن أيامهم التي قضوها قبل قدومهم إلى هنا، حيث الخُضرة تلف ثنايا السماء التي تراقب كلاً منهم بفضول.

أكره كلمة مقبرة. أقترب من حيز مستطيل يشبه المستطيلات الأخرى من الخارج، على الترتيب الهندسي نفسه، بالطول نفسه، والعرض والارتفاع. الجميع داخله. لا أريد أن أفكر على أي عمق يوجدون وكيف أمسى شكلهم. فقط أفكر فيهم بالهيئة الأخيرة التي شاهدناهم فيها. أراهن أنهم ما زالوا يتحدثون، يتناقشون، يلعبون ممارساتهم الممتعة كما في حياتهم السابقة، قبل أن أكتب هذا النص.

سألني صديقي إن كنت أتخيل الحديث الدائر.. تحت؟ وهل سيتعاركون من أجل الطعام والشراب، مثلاً؟ انفجرت في نوبة هستيرية، بين ضحك وبكاء، مبررة: لقد شاهد الكثير من الأفلام الأجنبية، ولديه خيال مناسب. فاعتماداً على الصور المتواترة لدينا، حتى في المخيلة، لا حياة أبداً تحت الأنقاض!

ماذا يحدّث الأحياء، الموتى؟ أو بالأحرى، لماذا سيحدّث الموتى الأحياء؟! سواء هنا، داخل متاهة متوازي المستطيلات تلك، أو في أي نقطة من هذا الكوكب؟ حينما يَرِدْون على بال ذويهم؟ وهل الموتى يسمعونهم، أو يشعرون بهم أصلاً؟! لا أدري، كل شيء هنا يشعرني بالرهبة والكمال والخلود والراحة الأبدية.

هل أتيت إلى هنا كي أتفلسف؟
نعم، أردت إفراغ بعض الوجع على عجل.

في النصوص نتفلسف. أما هنا، في هذه المتاهة الهندسية المصممة كي لا تخرج الأرواح فتتوه، لتبقى بالقرب من الأجساد المتعفنة، داخل الأروقة تتلاقى وربما تتحدث حديثاً سفلياً/علوياً، لا يفهمه الأحياء... هنا تحديداً، لا نفهم شيئاً. لهذا نرتبك، نبكي ونتأتىء بعض ما علمونا أن نقوله كي يشعر الموتى بالسكينة. لا أنبس بحرف مما تعلمت! عاجزة عن الدعاء والبكاء. فقط أشعر بالشفقة عليهم، على حالي، وبالحنق على هذه اللعبة المخجلة المسماة حياة.

أشعر بالخجل الآن، أني أكتب، وأنهم جميعاً في مستطيل واحد. ألا يمكننا على الأقل تفصيل مستطيلات كثيرة، كل واحد بحجم كل منهم؟ لماذا نضطر في أحايين كثيرة، أن ندفن رجلاً بجانب عظام آخر؟ لماذا هذه القسوة، حتى في الرقدة الأخيرة على سرير هذه الحياة؟ أهذي مجدداً.

الكتابة عن كل هذا الأسى الذي يعانيه البشر، حتى في نهاية علاقتهم بهذا الحيز الممتلئ بالحقد والضغينة وتقلبات الطبيعة، هذا الحيز المتعفنة أطرافه وباطنه... الكتابة عار، صحيح. هي عار لا يمكن تجنبه في مثل تلك الأوقات، حينما لا شيء يضاهي هذا العدم داخل متاهة متوازي المستطيلات المتعددة والممتدة بعمق. لذا سأخرج من النص مسرعة كما دخلته من باب المتاهة المعتمة والمظللة بالسواد، كي ألتحف، أنا أيضاً، بالسواد، وكما يليق بهذه المرحلة... على أعتاب مرحلة، المقابر الجماعية التي تضم رفاتنا جميعاً، حيث لا ندم ولا وجع ولا أدعية يمكن أن نخفف بها عن الأحياء أو الموتى.

قلتُ إني أكره كلمة مقبرة. لكن، مع وتيرة الموت المتسارعة هذه، والتي تحصد أرواح الآلاف يومياً هنا وهناك، عند الأطراف المتجمدة من هذا الكوكب، كل يوم الآلاف هنا أو المئات هناك يتمددون داخل ناووس متوازي المستطيلات الخاص بهم، أو يدخلونه بشكل جماعي. المقابر تتكاثر في الواقع وفي رأسي، وفي شاشات التلفزيون، وتنفتح كجرح في صدر صحيفة يومية.