سردية اللجوء بين القاهر والمتبطّل

صبا مدور
الأربعاء   2023/02/01
لاجئة من حلب إلى طرابلس اللبنانية (غيتي)
يحمل اللاجئ السوري أوراقه إلى مقر سفارة دولة يريد تأشيرة زيارتها لقضاء أعماله، فيصدّه رجل الأمن ويرسله إلى مكان خاص بالسوريين والأفغان، فيذهب ويجلس منتظراً دوره. لم يستنكر صاحبنا، عزل أصحاب هاتين الجنسيتين في مكان خاص، فلابد أن للسفارة أسبابها، ولأنه لاجئ يحترم القانون فسينتظر كل ما يلزم من وقت حتى يُنجز طلبه.

لم ينتبه اللاجئ الملتزم إلى جاره الذي ترك كرسيه ووقف على قدميه لسبب ما، لكن صراخ موظفة السفارة من خلف زجاج مكتبها نبّهه. كانت تأمر الجار (غير الملتزم) بالجلوس. أفزعته الصرخة، لكنه بدلاً من أن يستنكر صوت الموظفة ولهجتها المستفزة، التفت إلى جاره المسكين محاولاً نَهره على كسر النظام ووقوفه بهذا الشكل الذي أزعج الموظفة المسكينة! كان الجار سورياً خمسينياً، وقد سمعه صاحبنا وهو يهمهم مع نفسه بصوت مسموع عن عدم قدرته على الجلوس طويلاً في وضعية واحدة بسبب ظهره المصاب بشظية ما زالت مستقرة بداخله. كان ذلك كافياً ليسكته، لكنه ظل طبعاً ملتزماً بالجلوس حتى جاء دوره، لتبلغه الموظفة ذاتها من دون أن تنظر إليه، بعدم اكتمال أوراقه، وأن عليه أن يجلب وثائق جديدة تثبت أنه لن يبقى في بلادها.

خرج صاحبنا وهو يعلم أن السفارات كلها ستتعامل معه بالطريقة نفسها والمتطلبات والشكوك، وقرر مع نفسه أن يوقف مشاريع السفر مهما كانت الأسباب، فربما ذهب، ولم يسمحوا له بالعودة، مَن يدري؟ فليبق حيث هو، فقد حصل على صفة اللاجئ بعد معاناة صعبة، ومعظم معارفه فشلوا في ذلك. فليبقَ ويحفظ لنفسه هذا الامتياز الثمين للسوري الذي يجد نفسه اليوم حرفياً بلا وطن.

فعلياً، تجربة هذا اللاجئ هي نموذج ملطف بشدة لتجارب ملايين غيره، كانت أسوأ من ذلك بكثير. هو عانى فقط من قدر من التمييز، ورثى لحال جاره الذي تعرض للإهانة، لكن الأمر عنده سيكون محتملاً قياساً بما عاناه في بلاده، ثم في رحلة اللجوء، وما يعانيه الكثير من أكثر من 6 ملايين لاجئ، يتوزعون على معظم دول العالم، لكنهم يتمركزون في دول جوار سوريا وأبرزها بالطبع تركيا، وفيها لوحدها نحو ثلثا عددهم الكلّي، ثم لبنان والأردن، فيما احتضنت المانيا أكثر من 660 ألفاً منهم.

معاناة اللاجئين السوريين لا تحتاج لاستعادة تفاصيلها، ويكفي أن منظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تعتبر أن تسعة لاجئين من بين كل عشرة يعيشون في فقر مدقع، وما زال الكثير منهم يطمع باللجوء إلى دول أخرى، لا سيما بعدما بدأ لبنان بإجراءات لترحيل اللاجئين على أراضيه، وكذلك تركيا التي تلوّح بالأمر ذاته.

مشكلة اللاجئين السوريين أن الأسباب التي أرغمتهم على ترك ديارهم واللجوء أو النزوح ما زالت قائمة، وليس من أفق لنهايتها، ناهيك طبعاً عن عدم توافر ظروف طبيعية لعودتهم. وفي الوقت ذاته، فإن المجتمع الدولي، لم يعمل بأي قدر من الجدية على فرض حل عادل وقابل للدوام للأزمة السورية، وفي الوقت نفسه يريد إنهاء أزمة اللاجئين، من دون دفع أي تكاليف سياسية أو اقتصادية. ونزيد على ذلك طبعاً، أن السلبية العالمية، تسببت بخلق ظروف لتكريس حالة عنصرية ظاهرة وبقسوة ضد السوريين بطريقة غير إنسانية.

لا أحد يطيق أن يبقى معدماً وخاضعاً للتمييز والمهانة، مهما كان البلد الذي لجأ إليه، لكن دوافع اللجوء التي يريد النظام اليوم تسطيحها على طريقة ياسر العظمة، هي أسباب مشروعة تماماً، ولم يتخطّها إلا من ظل مدافعاً عن دياره أو قرر الموت تحت قصف النظام. أما السرديات الجديدة التي يراد إشاعتها، لتسخيف أسباب الهجرة، وتبرير الإرغام على العودة، فذلك كله يزيد من حدة العنصرية، بعد أن يجعل السوري الهارب من الموت والقهر والتعذيب الممنهج، مجرد شخص متبطّل ومتطلّب، خرج من بلاده بلا سبب قاهر ليقيم لاجئاً في بلاد الآخرين.