مجزرة جنين.. إعلام إسرائيل كسلاح موازٍٍ للجيش

أدهم مناصرة
الجمعة   2023/01/27
مارس الإعلام العبري، عبر دعايته المُوجَّهة، دوره كسلاح عدواني مساند لقوات الاحتلال أثناء عمليتها العسكرية في مخيم جنين طيلة الساعات الثلاث من صبيحة الخميس، كما قبلها وبعدها.

برز هذا الدور بالتماهي مع النشر الحرفي لدعاية الأمن الإسرائيلي وتبنيها، عبر أربع معالجات مُهندَسة بعناية. الأولى، عبر الزعم أن العملية العسكرية جاءت بناء على معلومات استخبارية "دقيقة" لمنع "هجوم كبير يتم التخطيط له". وثانياً، التعاطي مع ما يجري كما لو أنها معركة بين قوتين وجيشين، وليس عدواناً إسرائيلياً على شعب أعزل أولاً وأخيراً.

أما المعالجة الثالثة، فقد حاولت إظهار جيش الاحتلال في صورة "أنه يذهب للعملية الكبيرة مضطراً"، وأن المقاومين الفلسطينيين "لو سلموا أنفسهم لما كانت هناك دماء". في حين ركزت المعالجة الرابعة على تضخيم قدرات الأمن الإسرائيلي، والترويج بأنه "قادر على الوصول للمعلومة في وقتها، واختراق عمق مخيم جنين وقتما شاء"، وفق البروباغندا الإسرائيلية.


"شرعنة" المجزرة
حاول تلفزيون "مكان"، كما بقية وسائل الإعلام العبرية، تناقل أخبار العدوان الإسرائيلي على مخيم جنين، بطريقة تضفي الغموض المقصود، بادعائه أن العملية جاءت لـ"منع شيء كبير غير معروف وقت العملية، وأنه بعد انتهائها ستتضح الصورة أكثر".

لكن، ما أن انتهت العملية وانسحبت قوات الاحتلال مخلفة تسعة شهداء وعدداً من الجرحى، حتى أقرت التحليلات العسكرية والميدانية في النشرات الإخبارية الإسرائيلية بأن المقصود توجيه ضربة لـ"كتيبة جنين" على غرار "عرين الأسود" في نابلس، ضمن سياسة ملاحقة المسلحين، واحداً تلو الآخر، وهو ما يدحض فكرة أن العملية لمنع عملية كبيرة، كما يدعي العسكر في دولة الاحتلال. ولعلّ المقصود بذلك تقديم ذريعة أمام العالم لتبرير المجزرة التي قد تجرّ تصعيداً أكبر، وتشعل الأمور أكثر.

السوشال ميديا كانت حاضرة بقوة في التوظيف الإسرائيلي للدعاية المنشودة، حيث تناقلت صفحات إسرائيلية عديدة في فايسبوك وتويتر صورة جوية لمخيم جنين المكتظ بالمنازل، وفي عمقها إشارة حمراء تحدد المنزل المستهدف، حيث تواجد مقاومون، قبل استشهاد بعضهم وإصابة أو اعتقال آخرين.. 


وكتبت إسرائيلية تُدعى "أنا ميكولا" على الصورة التي مشاركتها في صفحتها الفايسبوكية: "موقع الشقة المخفية في رمال الجهاد التي تم تدميرها في قلب مخيم جنين للاجئين..تمت تصفية أو اعتقال المطلوبين الخمسة من الخلية التي خططت لهجوم إرهابي جهنمي".

أما موقع "ماكو" العبري، فقد نشر صوراً لثمانية مقاومين وصفهم بـ"القنبلة الموقوتة"، مشيراً إلى أنه تم "القضاء عليهم، ومعظمهم من نشطاء الجهاد الإسلامي".


وترافق مع ذلك، فيديو نشره جيش الاحتلال، ثم أعادت وسائل الإعلام العبرية بثه على نحو واسع، إذْ أظهر العملية الإسرائيلية بناء على كاميرات مثبتة على الخوذة العسكرية لجنود الاحتلال، مرفقة بتعليق انتهازي يهدف إلى المساواة بين القاتل المحتل، والضحية الفلسطينية، من خلال وصف مشاهد الفيديو "كوقائع لمعركة بالأسلحة النارية مع إرهابيين مسلحين في قلب مخيم جنين للاجئين"، على حد تعبيرها.

صحيفة "يديعوت أحرونوت" ارتأت أن تقدم ذريعة لمجزرة الاحتلال على طريقتها، وذلك بعنوان كتبته على فيديو نشرته على صفحتها في "تويتر"، بناء على تصوير جنود الاحتلال للاشتباكات: "توثيق من المعركة: مقاتلون من الجيش الإسرائيلي يركضون في قلب مخيم جنين على دوي ناقوس الخطر".

التقليل من هول المجزرة
لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل سعت دعاية الاحتلال للتقليل من حجم المجزرة التي استشهد فيها عدد كبير من الفلسطينيين، بينهم مسنّة إلى جانب عدد من الإصابات، وهو ما نقله الإعلام العبري عن ضابط كبير في الجيش الإسرائيلي، حيث اعتبر الأخير أن "عدد الضحايا قليل مقارنة بالتهديد".. وهي محاولة بائسة لتغطية وجه جيشه العدواني بقناع "المهنية والإنسانية"، وكأنه قناع قلل عدد الضحايا الفلسطينيين بالنظر إلى حجم العملية العسكرية وغايتها بمنع التهديد المزعوم!

الواقع، أن حديث الضابط الإسرائيلي استفز الصحافية والناشطة الحقوقية الإسرائيلية من أصول إيرانية، أورلي نوي، فكتبت منشوراً في فايسبوك انتقدت فيه مضمون وطريقة إجابة الضابط المذكور على سؤال حول استشهاد مُسنّة فلسطينية خلال المجزرة، إذ قال: "ربما هناك إطلاق نار، لكن ليست لدينا المعلومات كلها لتحديدها بشكل مؤكد". وردّت عليه نوي بأن هناك "الكثير من الأشياء التي يمكن أن نقولها عن جرائم الجيش، ونشوته للمذابح اليومية، وعن نظام يرى أن القتل الممنهج سبيله الوحيد للبقاء على قيد الحياة.. لكن، من يظن أنه سيتغلب على أمة لا تزال تقاوم بشجاعة أمام جيش فتاك".


تضليل بهوية الرصاص القاتل
غير أن ما بدا غير مؤكد، بمنظور جيش الاحتلال، بخصوص الرصاص الذي قتل المسنّة الفلسطينية، حسمته وسائل إعلام عبرية، عبر الزعم بأنه "رصاص فلسطيني لا إسرائيلي"، علّه بذلك يضلل الرأي العام العالمي. وهنا، يتجلّى التناقض في رواية الاحتلال، مثلما حدث بشأن الرصاصة التي قتلت الصحافية شيرين أبو عاقلة، بجوار مخيم جنين قبل أشهر، حيث أثبتت التحقيقات الأولية والنهائية عدم مصداقية الاحتلال وأن رصاصته هي التي اغتالت شيرين.

وكدليل على ركاكة رواية الأمن الإسرائيلي، استعان الأخير بتلفزيون "مكان" العبري، وليس كما جرت العادة بصفحات مجهولة في مواقع التواصل الاجتماعي، من أجل نشر مقطع صوتي يدعي أنه مكالمة هاتفية صوتية أجراها ضابط مخابرات إسرائيلية بوالدة ثلاثة من المقاومين، من أجل تسليم أنفسهم وعدم الاشتباك مع الجيش، "لتنتهي العملية من دون دماء".


ويريد الاحتلال من خلال هذا المقطع أن يبرئ نفسه من المجزرة التي وقعت، بدعوى "أنه لم يرد لأحد أن يستشهد". لكن هذا الأسلوب من المكالمات التي يجريها ضباط الاحتلال بذوي المقاومين ليس الأول من نوعه، بل هو أسلوب معتاد لتشكيل ضغط نفسي على الوالدين وأبنائهما الملاحقين من قبل الاحتلال.

"المعركة".. لطمس "المجزرة"
على الرغم من انغماس الاعلام العبري في عملية تقديم الحجج لمجزرة الاحتلال وتبريرها، إلا أنه لم يستطع إغماض العين عن فيديو نشرته "كتيبة جنين" لإسقاط طائرة مسيرة إسرائيلية أثناء الهجوم، بل أعادت نشره بعض الصفحات الإسرائيلية في مواقع التواصل الاجتماعي..لكنها حاولت توظيفه في مسعى لفرض مصطلح "المعركة" بغية طمس تعبير "المجزرة".